لخلق حوار صادق وهادف في المجتمع يجب عدم إدخال القضاء في الحوارات الفكرية أو أحاديث رموزها، وترك المجتمع يحكم على صحة القول أو بطلانه، فالحق أبلج ولو تأخر ظهوره. فاستدعاء القضاء عند أي زلة لفظية للمخالف، هو أولا من باب إقحام السلطة والقضاء في النزاعات الفكرية. وثانيا هو إخماد للفكر الحواري الإبداعي في المجتمع، الذي يفتقر إليه مجتمعنا أصلاً. فثقافتنا العربية لا يخلو جانبها التخاطبي الفكري أو الاعتيادي، من المبالغة في المدح والإطراء كما لا تخلو من حدة القول. والمدح والإطراء ليس موضوع اليوم، وأما حدة الرد على المخالف فلا أعظم من رد الصديق رضي الله عنه (وحق له) على عروة بن مسعود في الحديبية. وقد توارثت العرب حدة اللفظ في خطابهم مع الآخرين ما يراوح بين اتهام المخالف، ووصف الخطأ بالكذب، والاستهزاء بالاسم والأصل عند الرد. وفي البشرية عموماً بعيداً عن الثقافة العربية، قد يلجأ المناظر أحياناً إلى حدة في العبارة أو سخرية في الخطاب من أجل إثارة الموضوع وحفظه في الأذهان. وهذا أسلوب مستخدم الآن في الدعايات العالمية. فقد ترى دعاية تلفزيونية لمنتج جديد كلياً وفيها منظر مقزز لا علاقة له بموضوع الدعاية، وذلك من أجل إلصاق إدراك وجود هذا المنتج في العقل الباطني للزبون المستهدف. وقد يكون المناظر مخلصاً أو ذكياً ويواجه مدلساً أو غبياً فيخرجه ذلك عن طوره وتترجم معاناته على صورة حدة في القول والطرح، «ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم، ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن جهلِهِ، وخطاب من لا يفهم». فخلاصة القول إن حدة القول له أصل في ثقافتنا العربية، وقد كان الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله حاداً في طبعه وكذلك كان ابن حزم. وحدة القول فطرة تستفزها مناسبتها، كما أن حدة القول أسلوب دعائي أحياناً. واللين في الخطاب واللحن بالقول قد يكون من ضعف الحجة. «فإن لصاحب الحق مقالاً، ولذا فليس كل مهادن بالقول حليم فقد يكون ذلك من ضعف حجته»، «والذل يظهر في الذليل مودةً وأود منه لمن يود الأرقم» (الأرقم هو الثعبان). ومرادي من هذا المقال هو تبيين أن استدعاء القضاء في كل مناسبة يشذ أحدهم في قول هنا وهناك هو من تقييد للحريات وتعطيلٌ للحوار. وذلك أن المتحدث ينشغل بتنميق الألفاظ وتجميل القول حتى ينشغل عن جوهر الطرح. وقد يُترك الطرح عالقاً خوفاً من الخطأ في القول، فيستدعي المخالف القضاء عليه. كما أن استدعاء القضاء هو ضعف في الحجة والدليل والمنطق. فما عدا التعدي الظاهر الواضح على الدين أو العرض، فإن مناخ الحريات الفكرية الساعي للإصلاح والتجديد لا ينضبط ولا يعمل في مجتمع يستدعي بعض أفراده القضاء على بعضه الآخر في كل مناسبة.
مشاركة :