لو كتبت إلى حجارة بقلم: حميد سعيد

  • 7/29/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

إنهم عديمو الشعور، ما أدركوا عذابات المواطن ولا المخاطر التي تحيط بالوطن، بل أغلقوا آذانهم وعيونهم، وتخلوا عن العقل، فما أدركوا حتى ما كان يحيط بهم من مخاطر وما ينتظرهم من مصائر.العرب حميد سعيد [نُشر في 2017/07/29، العدد: 10706، ص(16)] التقيت مؤخراً في عمان مثقفاً عراقياً، كنت أتابع ما يكتبه خلال السنين الأخيرة، فهو لم يغادر العراق ولم ينقطع عن الكتابة في كل ما يتعلق بالشأن العام، وكان ينحو في كتاباته منحى نقد الواقع الاجتماعي والأداء السياسي في عراق ما بعد الاحتلال، واتسمت كتاباته بالصراحة وحرارة المواجهة، إلى حدٍ كنت أخشى عليه من الأذى، فحذرته غير مرة وطلبت منه ألا يندفع كثيراً في نقد الانحرافات والمنحرفين في العراق، وكان قد تعرض أكثر من مرة لاعتداءات وحشية، وواجه محاولات وقحة حاول مرتكبوها أن يفرضوا عليه التخلي عن قلمه وعن لسانه. وفي لقائنا الأخير أخبرني بأنه تلقى تهديدا من قبل عصابة مسلحة على ارتباط بأحد أحزاب السلطة الطائفية، مما اضطره إلى مغادرة بيته حفاظاً على من تبقى من أفراد أسرته، وكان قد اختُطِفَ وقُتِلَ اثنان من أبناء أحد أشقائه. إن أكثر ما آلمني في لقائنا هذا قوله: إن كل العذابات التي تعرضت لها، لأنني وقفت ضد الاحتلال وضد التدخل الإيراني الفاضح، وضد انحرافات السلطة وما اقترن بها من جرائم، وبعد كل تلك العذابات، اضطررتُ أخيراً إلى مغادرة العراق، بعد أن صار الأذى يقترب من أبنائي، ورغم ما كتبته وما كتبه غيري من كتاب ومثقفين وصحافيين وأدباء، لم تنجح كل هذه الكتابات في إصلاح خطأ أو تجاوز خطيئة، بل تفاقمت الأخطاء والخطايا على كل صعيد. لقد ذكرني صديقي هذا بحكاية صارت بعيدة جداً، أيام كنت طالباً جامعياً، أعيش ذرى مثاليتي فلا يعجبني العجب ولا الصيام في رجب، وكنت أصادف أحياناً أحد القادة النقابيين، رحمه الله، وهو مثقف وكاتب، فيدعوني إلى وجبة شواء، لكنني كنت أنغص عليه وعلى نفسي وجبات الشواء، حيث أنتقد كل شيء وأي شيء، فيقول لي بثقة كانت هي الأخرى تستفزني: اطمئن سأكتب عنها. وإذ تكررت انتقاداتي، وتكررت معها إجابته التي لم تتغير، قلت له يوما وبنبرة حادة: كلما حدثتك عن أمر قلت لي بأنك ستكتب عنه، فماذا فعلت كتاباتك يا أستاذ وماذا ستفعل؟ ولأنني كنت شديد الإعجاب برواية “الساعة الخامسة والعشرون” للشاعر والروائي الروماني” قسطنطين جيورجيو” بل ما زلت معجباً بها، وما زلت أعيد قراءتها وسأكتب يوماً عن علاقتي بها، قلت بشيءٍ من التعالم إن اعتماد الكتابة في بلادنا الآن كما لو كتبت إلى حجارة، كما يقول الروائي فلان في روايته الفلانية. فتجاوز الرجل انفعالي وتعالمي، وقال لي بهدوء: ماذا قال؟ فأجبته -في ما أكتبه الآن، أعود إلى نص الرواية، لأكون أقرب إلى ما قلته وقتذاك-: يقول تريان كوروغا، أحد أبطال الرواية: لقد كتبت حتى الآن أربعين شكوى، أردت أن أبين فيها الحقيقة، وإقناعهم بالعزوف عن تعذيب البشر، وقد نظمت كل شكوى ببراعة، ولكن عبثاً. استعملت الإنشاء القضائي والإنشاء الدبلوماسي، ثم الأسلوب البرقي وأسلوب حسابات المطابخ، ثم الأسلوب الإذاعي، لقد قلت أكثر الحقائق إيلاماً، لكنهم لم يغضبوا ولم أوفق في إثارة إشفاقهم، لقد أردت إضحاكهم أو إثارة فضولهم، ولكن عبثاً، فلم أتوصل إلى إيجاد أي رد فعل في نفوسهم، إنهم عديمو الشعور، لقد كان أفضل لي لو كتبت إلى حجارة. وهنا أقول لصديقي المثقف العراقي الذي ظل يكتب ويكتب ويكتب، فما سمعه أحد ولا نجح في تغيير أي شيء، ألا ترى أن من يحكم العراق الآن، صغارهم وصغارهم، من طينة الحكام الذين كان تريان كوروغا يكتب إليهم؟ إنهم عديمو الشعور، ما أدركوا عذابات المواطن ولا المخاطر التي تحيط بالوطن، بل أغلقوا آذانهم وعيونهم، وتخلوا عن العقل، فما أدركوا حتى ما كان يحيط بهم من مخاطر وما ينتظرهم من مصائر. كاتب عراقيحميد سعيد

مشاركة :