في إسرائيل نفسها ثمّة حشد من الكتّاب والأدباء والمخرجين والفنانين، لا سيّما اليساريين منهم، المتفهمين لقضية الشعب الفلسطيني والمتعاطفين معها، وقد جسدوا مواقفهم تلك بنتاجهم الإبداعي.العرب محمد حياوي [نُشر في 2017/07/29، العدد: 10706، ص(15)] هل تُعَد الترجمة إلى اللغة العبريّة، التي يعدّها البعض لغة العدو، نوعاً من التطبيع؟ هذا السؤال تبادر إلى ذهني حالما استلمت رسالة من باحث يهودي يعيش في حيفا، يطلب فيها الأذن بترجمة روايتي للعبرية. الأمر الذي اضطرني لاستشارة صديقي الكاتب سماح إدريس، المعروف بتصديه لكافة أنواع التطبيع، لا سيّما الثقافي، مع إسرائيل وبنائه، مع نخبة من المثقفين الشباب في لبنان وغيرها لما يشبه حائط الصدّ المتقدّم الذي يستشعر الأساليب المتلوّنة والزئبقية لدعاة التطبيع. وجاءني الردّ بأنّ هذا الباحث طالما يعمل في جامعة إسرائيلية أقيمت على أرض مغتصبة، فالعملية برمتها تُعَد تطبيعاً لا لبس فيه في الحقيقة، وعلى الرغم من أنّني تأثرت كثيراً بالأسباب التي ساقها الباحث المذكور، وهو يهودي من أصول عراقية، تتعلق بتعاطف اليهود العراقيين مع بلدهم الأمّ وتوقهم لقراءة الأدب العراقي الحديث والاطلاع على التجارب الروائية الجديدة هناك، يدفعهم لذلك توقهم لماضيهم في العراق وحنينهم إليه، إلّا أنَّني شعرت لحظتها كما لو أن مشاعري إزاء فلسطين في محل اختبار موجع ليس في محلّه، ولا أرغب في أن أخضع له كنوع من التشكيك في قناعاتي، فاتخذت على الفور موقفاً حاسماً من الأمر وكتبت رسالة اعتذار مؤدبة، على الرغم من المكاسب المالية والانتشار اللذين يمكن أن أحظى بهما في حال نُفذت الترجمة. بالتأكيد هذا الموقف قد سبقني إليه الكثير من الأصدقاء الأدباء والمثقفين العرب، لكن ما زال ثمّة الكثير ممن يختلفون معي ومع سماح في هذا الشأن ويعدون الترجمة للعبرية نوعاً من الانتشار وفتح آفاق جديدة ومُضافة للكتاب، ويبررون نزعتهم تلك بالجانب الإنساني البحت بالنسبة لليهود من أصول عربية الذين يعيشون داخل إسرائيل، والذين تحدوهم الرغبة في قراءة الأدب العربي والاطلاع على نماذجه المتطورة، كهمّ معرفي بعيد عن سياسات الحكومة الإسرائيلية وجرائمها التي ترتكبها بحق أبناء الشعب الفلسطيني المدافع عن حقّه في الحياة بكرامة على أرضه وأرض أجداده. وفي المحصلة فإنّ مواقف البعض من الكتّاب والمثقفين العرب رهن بقناعاتهم الشخصية بالتأكيد، لكن التعامل مع العبرية كلغة قديمة، لسكان المناطق العربية الحالية الفضل الأكبر في تأصيلها ووضع قواعدها وتدوين النصوص المقدسة فيها، يتطلب التعامل معها كلغة قائمة بذاتها، وليس بالضرورة ربطها بدولة إسرائيل الحالية التي اتخذت من اللغة العبرية، من بين ما اتخذت، ذريعة للتقارب مع الكيان الثقافي العربي المتنوّع، وبالتالي فإنّ آلية ترجمة النصوص إليها ينبغي أن تكون بعيدة كل البعد عن المؤسسات الإسرائيلية، ثقافية كانت أم سياسية، أي بعبارة أخرى ينبغي طرح السؤال بطريقة أخرى، تتعلّق بمن يقوم بفعل الترجمة تحديداً، وفيما إذا كان ينتمي إلى مؤسسات تتبع الدولة الإسرائيلية أم إلى مؤسسات ثقافية بحت، حتى لا نتهم بالشوفينية والعنصرية والانسلاخ عن الهمّ الإنساني وأنظمته المعرفية المتوارثة. إنّ التخلي عن اللغة العبرية، كلغة شرق أوسطية عريقة وتقديمها على طبق من ذهب للدولة الإسرائيلية أقرب إلى العته منه إلى الموقف السياسي المتفهم والمستقرئ للأحداث والتفاعلات السياسية والمجتمعية التي تحتدم في عالمنا العربي، بعيداً عن الشعارات الفضفاضة التي يطلقها البعض أو يردّدها بطريقة آلية دون تمحيص أو دراية. ففي إسرائيل نفسها ثمّة حشد من الكتّاب والأدباء والمخرجين والفنانين، لا سيّما اليساريين منهم، المتفهمين لقضية الشعب الفلسطيني والمتعاطفين معها، وقد جسدوا مواقفهم تلك بنتاجهم الإبداعي على شكل روايات وأفلام وموسيقى وتشكيل، ناهيك عن الأعداد الكبيرة من اليهود العاملين في المنظمات الإنسانية والإغاثية، تحتم الموضوعية مساندتهم وتقدير مواقفهم السياسية والإنسانية النبيلة، خصوصاً وأنَّهم محط استهداف دائم من اليهود المتطرفين والأحزاب اليمينية في إسرائيل. كاتب عراقي محمد حياوي
مشاركة :