الكاتب محفوظ عبدالرحمن كان يعشق التاريخ إيمانا منه بأنه المدخل الحقيقي للعرب لفهم حاضرهم وتحقيق أمانيهم في المستقبل.العرب سمير الشحات [نُشر في 2017/07/29، العدد: 10706، ص(14)]محفوظ عبدالرحمن مصري نصفه أديب ونصفه مؤرخ وعيناه على هموم البسطاء القاهرة- لا تمكن الكتابة عن محفوظ عبدالرحمن دون الرجوع إلى ما قاله هو بنفسه عن نفسه؛ “أنا لي نصف مع التاريخ ونصف آخر مع الأدب”، فهو ورغم أن شهرته لدى المصريين والعرب استمدها من مسلسلاته الدرامية التليفزيونية إلا أنه في الأساس أديب بدأ بكتابة القصة القصيرة والمسرحية والرواية. المتابع لأعماله العديدة سواء في الأدب أو الدراما التلفزيونية أو أفلامه السينمائية لا بد وأنه سيلحظ أن “التيمة”، أو الأسلوب الرئيسي في كل تلك الأعمال، هي ولعه بالتاريخ، ودارت كل أعماله تقريبًا عن شخصيات تاريخية بدءًا من عنترة بن شداد وسليمان الحلبي مرورًا بتاريخ العرب بالأندلس وغرناطة وحكاية المصريين مع قناة السويس، وانتهاءً بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر والمطربة أم كلثوم والمطرب عبدالحليم حافظ. وصفته السحرية وُلد عبدالرحمن عام 1941 ودرس التاريخ في القاهرة، ثم بدأ حياته أولًا في الصحافة بدار الهلال لكنه لم يستمر بها وانتقل إلى العمل بقسم الوثائق بوزارة الثقافة المصرية ثم سرعان ما اكتشف الراحل المسرحي الكبير سعدالدين وهبة موهبته فأخذه معه في مجلة السينما التي كان يصدرها، وهو متزوج من الفنانة المصرية سميرة عبدالعزيز ويعاني الآن من اشتداد المرض على جسده. عشقه للتاريخ ليس راجعًا فقط إلى تخصصه الدراسي والأكاديمي كونه حاصلا على ليسانس التاريخ من كلية آداب جامعة القاهرة (عام 1960)، بل وأساسًا إلى إيمانه بأن التاريخ هو المدخل الحقيقي للعرب لفهم حاضرهم وتحقيق أمانيهم في المستقبل، وعلى حد قوله “لا شيء يهدي الأمم مثل استيعابها لتاريخها”. ينظر إلى الدراما التاريخية، التي تخصص فيها فتفوق على كل من كتبوها، على أنها وقائع تاريخية ممزوجة بالخيال، وأن تلك هي الوصفة السحرية لهذا النوع من الدراما “إنك وأنت تكتب دراما التاريخ عليك أن تتخيلها ثم تُعيد صياغة المعلومات التاريخية فتكتبها بأسلوب جديد. الدراما التاريخية كانت هكذا منذ بدايتها قبل الميلاد.. ومازالت كذلك حتى الآن”. ولأن التاريخ هو سلسلة من التفاصيل الصغيرة المتشابكة فإن أهم ما يميز كتابة عبدالرحمن إدمانه عرض التفاصيل متناهية الصغر “أنا لا أكتب موضوعًا ما إلا إذا كنت أعرف تفاصيله من أوّل لحظة وحتى آخر جملة في العمل، وعندما أعكف على مسلسل من 30 حلقة مثلًا أخطط له تخطيطًا تفصيليًا، وإذا ما ضاعت منّي ورقة واحدة وأعيد كتابتها أكتشف أنني كتبتها هي هي بالضبط”. الناقد الأدبي والفني محمد كامل القليوبي يقول إن عبدالرحمن “أكثر مؤلف درامي تناول التاريخ العربي في أعماله”، ألّف مسلسل “الكتابة على لحم يحترق” عن تحالف الفرنجة مع المغول ضد العرب، ودار مسلسل “سليمان الحلبي” عن ذلك البطل العربي الذي واجه الاحتلال الفرنسي لمصر في نهايات القرن الثامن عشر. أما مسلسل “محمد الفاتح” فاستعرض بطولات هذا السلطان المسلم الذي قضى نهائيًا على الإمبراطورية البيزنطية، وكان “ليلة سقوط غِرناطة” عن زوال دولة العرب بالأندلس، ومسلسل “مصرع المتنبي” عن قصة حياة ومعاناة هذا الشاعر العربي العظيم، كما لم يهمل عبدالرحمن تاريخ مصر المعاصر، فنجده في مسلسل “أهل الهوى” وقد عرض لحياة الشاعر بيرم التونسي، وطبعًا في “أم كلثوم” شرح بالتفصيل أسرار تلك الفترة التاريخية الثرية جدًا في حياة المصريين في النصف الأول من القرن العشرين. أنا وأم كلثوممسلسل “أم كلثوم” الذي كتبه محفوظ عبدالرحمن يعتبر من أهم أعمال السيرة الدرامية التي أحبها الجمهور يبدو الرجل حريصًا باستمرار على تقديم رؤيته للتاريخ بعين ناقدة، ليس بحسبان التاريخ مجرد أحداث مؤثرة فقط، بل وبالأساس باعتباره دراما بشرية، وذلك من خلال رؤية عروبية قومية استطاع فيها في كثير من الأحيان التنبؤ بما نعيشه الآن. رغم أن عبدالرحمن بدأ يعرف الشهرة مع مسلسل “ليلة سقوط غرناطة” الذي قدمه في العام 1981، إلا أن بدايته مع الكتابة الدرامية كانت قد بدأت قبل ذلك بست سنوات مع مسلسل “سليمان الحلبي” في العام 1975، الذي قال عنه ذات مرة إنه يراه واحدًا من أهم المسلسلات التي كتبها على الإطلاق. لكن بالتأكيد فإن مسلسله الأشهر “أم كلثوم” كان العمل الذي أدخل اسم محفوظ عبدالرحمن إلى كل بيت مصري وضاعف من انتشارها عربيا، ولا يكاد اسم هذه المطربة الأسطورة يُذكر في أيّ محفل إلا وطفت على سطح الذاكرة أحداث هذا المسلسل، وسوف تسمعهم يقولون “آه.. أليس هذا المؤلف هو من أنجز مسلسل أم كلثوم”؟.. فما الذي دفعه إلى كتابة المسلسل بتلك الدقة والحرفية، بل والحب الذي أحس به كل من شاهدوه؟ هو يفسر ذلك التعلق بالمسلسل بأنه كان منشغلًا دائمًا بالشخصيات التاريخية التي أثّرت في المصريين والعرب خلال القرن العشرين، مثل الزعيم المصري الراحل سعد زغلول وجمال عبدالناصر وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وغيرهم، ورأى أن أم كلثوم هي واحدة من أكثر عشر شخصيات تأثيرًا في العرب خلال المئة سنة الأخيرة. قال إن الكثيرات من المطربات العربيات امتلكن حنجرة مميزة كحنجرة السِّت (هكذا كان يطلقون على أم كلثوم دائمًا)، إلا أنها هي وحدها التي أصبحت ” كوكب الشرق”، ولم يكن ذلك فقط لأنها أحبت الغناء، بل بالأساس لأنها أحبت النجاح من خلال الغناء. أوضح أنها، أولًا، نجحت في توحيد العرب من خلال أغنياتها، وهذا شيء لم ينجح فيه الزعماء السياسيون، حيث كان كل بيت عربي يستمع إليها في الإذاعة فيطرب، ثم أنها كانت، ثانيًا، انعكاسًا حقيقيًا للعصر الذي عاشت فيه، وهي، ثالثًا، كانت تمثل المواطن العربي البسيط ليس فقط لنشأتها الفقيرة، بل الأهم من هذا أنها عبّرت عن أحاسيس ومشاعر هؤلاء البسطاء وهي تغني. وصرح في حوار صحافي قائلًا “أنا باستمرار كانت عيناي في كل أعمالي الدرامية على هذا المواطن البسيط”، وأضاف أن أم كلثوم فوق ذلك كله مثّلت بداية المشروع النهضوي المصري الذي بدأ مع ثورة 1919 في مصر، وظلت تؤثر في الحياة المصرية منذ الثلاثينات وحتى السبعينات من القرن الماضي.. وربما حتى الآن. مبارك وناصر 56 لا شك في أن المحطة الثانية الأبرز في مشوار عبدالرحمن كانت تحفته المتمثلة في فيلم “ناصر 56”، الذي أمضى سنوات في كتابته، ثم أنتجه التلفزيون المصري باعتباره مجرد سهرة تلفزيونية إلا أنه تحوّل إلى واحد من أشهر أفلام السينما العربية، وقام ببطولته الراحل أحمد زكي وأخرجه محمد فاضل، وتم عرضه في العام 1996 بعد أن استغرق تصويره عامين. في أحد البرامج التلفزيونية تحدث عبدالرحمن عن عجائب ثلاث متعلقة بهذا الفيلم، أولها، أنه عندما عُرض لأول مرة لم يكن منتجوه يتصوّرون أنه سيلقى كل هذا النجاح، إلا أن المفاجأة كانت أنه لم يحقق فقط النجاح على مستوى النُقّاد بل جماهيريًا كذلك، لدرجة أن أول يوم للعرض اضطر فيه الكثيرون إلى الجلوس على الأرض بمن فيهم أحمد زكي بطل الفيلم نفسه. وأما العجيبة الثانية، فهي أن عبدالرحمن اكتشف كيف كان الرئيس الأسبق حسني مبارك يغار من عبدالناصر، وحكى عبدالرحمن قائلًا “الطريف أن الفيلم بعد عرضه الأول تم منع عرضه لمدة عام كامل، وكان السبب هو الرئيس مبارك الذي قالت مصادر مقربة منه لعبدالرحمن إنه قال “هو مين اللي بيحكم.. إحنا ولّا عبدالناصر”.. ومع ذلك سمح بعرضه بعد ذلك. العجيبة الثالثة بالنسبة إلى عبدالرحمن فيما يتعلق بهذا الفيلم أنه اكتشف أن قطاعات عريضة جدًا من الشعب المصري والعربي مازالت تحبّ عبدالناصر إلى درجة أن الكثيرين كانوا يبكون ويصفقون كلما كان عبدالناصر يخطب (يلقي خطاباته) في الفيلم، وعلّق عبدالرحمن على هذا بالقول “الناس اللي زي (مثل) عبدالناصر ما بيموتوش (لا يموتون). وكما عبّرت أعمال محفوظ عبدالرحمن عن أحوال البسطاء فإن آراءه السياسية هي الأخرى سارت على نفس المنهج، حيث يرى أن القوى الأكثر ثراءً بالمجتمع الآن هي التي تحصل على المكاسب. وقال “عندما أنظر فأرى رجال الأعمال يجلسون على المائدة ينتظرون الطعام أشعر بخوف شديد، وأخاف منهم هم بالذات، لأنهم لم يفعلوا أيّ شيء للمجتمع حتى الآن، وكل الأرقام التي يرددونها وهمية”، وخاطب الحكومة مُحذرًا “مثلما أسعى للسيطرة على البسطاء الآن بسهولة فإن عليّ أن أسيطر على الأغنياء بنفس القوة”. أما عن رأيه في جماعة الإخوان وما إذا كان يرى أيّ دور لها في المستقبل، فإنه أكد أن الإخوان ليسوا قادرين الآن على فعل أيّ شيء، “الإخوان يعتمدون على أن الدولة ستنهار، وأن لهم أنصارًا في الخارج يضغطون وهذه حسابات خاطئة لأنهم لا يعنيهم من سيموت أو من سيعيش”. وتوقع أن الإخوان سوف يستسلمون قريبًا جدًا، وقد يعودون إلى المشهد من جديد “فأنا أعرفهم منذ كنت في المدرسة الابتدائية، إنهم فصيل يغيّر استراتيجيته بسرعة حسب الظروف، ومستعدون للتغيير دائمًا، أما السلفيون فهم الذين يخيفونني أكثر، لأنهم الأكثر غموضًا وتنوعًا، ولا أفهم ما يفعلونه، وقراءتهم غاية في الصعوبة، لكنهم لن ينتصروا”. توقع ثورة ثالثة لم يكن اهتمام عبدالرحمن بالسياسة قاصرًا فقط على أعماله الدرامية والأدبية وإنما امتد إلى آرائه التي طالما عبّر عنها في حواراته التلفزيونية والصحافية والإذاعية، وفي مقالاته الكثيرة التي كتبها في معظم الصحف والدوريات المصرية، والبعض من الصحف العربية حيث كتب في الأهرام والجمهورية والهلال وغيرها.فيلم "ناصر 56"، يمثل تحفة عبدالرحمن الفنية، فقد أمضى سنوات في كتابته على سبيل المثال فإنه قال مؤخرًا إنه لا ثورة 25 يناير 2011 ولا ثورة 30 يونيو 2013 حققتا أيّ شيء للمواطن المصري حتى الآن، فالثورات في رأيه تحتاج إلى وقت طويل لتحقق أهدافها، وهو يؤمن بأن الفساد مازال العائق الأكبر أمام تحقيق أحلام الشعب، وقال في حوار له قبل أشهر “للأسف.. لقد زاد الفساد الآن قوةً على قوّته، بل ودخل على الثورة نفسها، فأصبحنا نرى الفاسدين من كل نوع في كل مكان، وفي كل شيء”. وكان لافتًا أيضًا ما قاله قبل عامين من أنه يتوقع ثورة ثالثة في مصر، “نعم.. من الممكن أن تقوم ثورة ثالثة، فالشعب المصري قد عرف سِكّة الثورات، والأزمة الاقتصادية الحالية بكل أشكالها المختلفة من الممكن فعلًا أن تصل بنا إلى ثورة جياع”. وأضاف “لن تكون لدى القائمين بهذه الثورة أيّ نظرية أو رؤية وإنما سيسعون لتحقيق مكاسب هم أنفسهم لا يعرفون ما هي، وهنا ستكون النتائج أخطر من الثورتين السابقتين، وسوف تكون ثورة لا فكر لها ولا أخلاق، لأن المشاركين فيها سيكون كل همهم (عايز آكل).. موش (عايز النظام يرحل).. كما كان شعار 25 يناير”. هكذا فإن نظرته الواقعية للحياة المصرية ليست منفصلة عن أعماله، وفي كتابه الصادر قبل ثلاث سنوات عن محفوظ عبدالرحمن، وحمل عنوان ” الأداء السياسي في مسرح محفوظ”، قال المؤلف عبدالغني داوود إن “أعماله الدرامية والأدبية تميزت دائمًا بتسييس المضمون، وبأنها ليست منعزلة عن الواقع إذ أن مادته تحمل الطابع السياسي، حيث تعرّض في مسرحياته ‘حفلة على الخازوق’ و’كوكب الفئران’ و’الحامي والحرامي’ و’محاكمة السيد ميم’ للفساد السياسي”. عبدالرحمن كتب 12 مسرحية وقال الناقد الأدبي الراحل سامي خشبة عن مسرحياته إنها تحمل بُعدًا فلسفيًا استمده من تراثنا العربي ولديه موهبة فريدة في صياغة الجملة المسرحية المشحونة بالتوتر ونجح في المزج بين الحكاية والبناء المسرحي. لعبدالرحمن مسرحيات مثل “الفخ” و”ما أجملنا” واللبلاب” و”عريس لبنت السلطان” و”احذروا” وغيرها، كما أن له روايتين هما “اليوم الثامن” و”نداء المعصومة”، ومن قصصه القصيرة مجموعتا “البحث عن المجهول” و”أربعة فصول شتاء”. وقد لا يعرف الكثيرون أن تأثر عبدالرحمن بالمسرح بدأ معه منذ نعومة أظافره عندما كان أبوه (الذي كان ضابطًا بالشرطة) يصحبه معه ليشاهد مسرحيات الكوميديان الرائد الراحل نجيب الريحاني بالقاهرة، وقال عبدالرحمن “بمجرد ظهور الريحاني على المسرح زاد عندي سحر المسرح، ما جعلني فيما بعد أتجه إلى قراءة تاريخ المسرح الإغريقي والروماني فضلًا عن أعمال المسرحيين الكبار مثل موليير وشكسبير”، وكانت أول مسرحية كتبها هي ” اللبلاب” في العام 1958.
مشاركة :