جنة الكتب مكتبة شكسبير وشركاه بباريس لا تزال توفّر لزوارها الكتب القديمة والجديدة على السواء سخية في التعامل مع قراء الكتب مجانا.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/07/30، العدد: 10707، ص(10)]مكتبة شكسبير وشركاه بباريس حين تمشي الكتب بخيال النائمين بين رفوفها لندن- كنت ولجتها غير مرة من غير أن أبحث فيها عن كتاب بعينه. أدخل إليها لأضيع محمولا برائحة الكتب. من الصعب أن تبحث عن كتابك في متاهتها. عيناك تسبق يديك فيحل الخيال محل الحقيقة. هي ذي الجنة. الحالمون بالكتب جنة الكتب حسب الأرجنتيني بورخيس. الجنة كما تخيلها بورخيس هي عبارة عن مكتبة. الرجل الأعمى كان يقرأ بحواسه كلها. هناك أصوات تصل قبل القراءة. للكتب أصوات. وهو ما يمكن أن يتعرف عليه المرء حين يزور مكتبة شكسبير بباريس. ما من مرة مشيت قريبا منها إلا ووقفت في انتظار أن أمتلئ بهوائها. هواء مختلف يهبّ من أمكنة لا يمكن التكهن بها. مكتبة هي أشيه بمدينة متشعّبة الدروب. لا تلمس جدران دروبها خشية أن يستيقظ النائمون على مخدات حروفها. هذه الجدران ليست من حجارة. إنها من كلمات. لذلك المكان روح ساهرة. عليك وأنت تمشي بين دروب متاهتها أن تقف في أحيان كثيرة جانبيا لكي تسمح لآخرين بالمرور. الدروب في غابة الكتب ضيقة. الوقوف هو الآخر مناسبة لتأمل الكتب.مكتبة شكسبير وشركاه تديرها سيلفيا ويتمان منذ أن مات والدها الكتب كثيرة. ما أكثرها. هل كُتبت هذه الكتب من أجل أن تُقرأ كلها؟ خزانة المعرفة البشرية لا حجم محدّد لها. هنا يتنفس المرء هواء الكتب. تلتهم عيناه جمال الكتب. تنعم يداه بملمس الورق الذي هو مادة الكتب الخارجية. ولكن الورق خفيف وشفاف. مرآة تمتزج فيها الأزمنة. فكان النائمون بين تلال الكتب يغمضون أعينهم على أشباح تركت أحلامها بين دفات الكتب ومضت. المؤلفون مرئيون كما لو أنهم زوار حقيقيون. يُخيل للمرء أنه سيصدم في أيّ لحظة فيتزجيرالد أو همنغواي أو أزرا باوند أو جان كوكتو، مان راي، جيرترود شتاين أو جيمس جويس. المكتبة الأكثر شهرة في العالم كان لها نصيب في فيلم الأميركي أندي وارهول “منتصف الليل في باريس”. كانت جنة الكتب ملهمته في تخطي عتبة الزمن ليرى كما يفعل النائم لقاءات متخيلة بين فرسان الأدب والفن في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. منذ زمن بعيد أضافت مكتبة شكسبير وشركاه سببا آخر لحب باريس. قريبا من ساحة سانت ميشيل على ضفة السين اليسرى المقابلة لكنيسة نوتردام دي باري يقع واحد من أشهر معالم باريس السياحية والثقافية. مكتبة شكسبير وشركاه التي تديرها سيلفيا ويتمان منذ أن مات والدها في شقته التي تقع فوق المكتبة. ولكن جورج ويتمان كان المؤسس الثاني للمكتبة العريقة. لقد سبقت سيلفيا أخرى والد سيلفيا الحالية إلى الريادة في هذا المجال. كانت سيلفيا بيتش مواطنة أميركية دفعها شغفها بعاصمة النور إلى أن تختار الإقامة فيها وسط ما سمّي بالجيل الضائع من الأدباء والفنانين الأميركيين الذين هاجروا إلى باريس في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين. نهاية عام 1919 افتتحت بيتش مكتبتها في شارع دوبوترن، بعدها بثلاث سنوات انتقلت إلى شارع دي أوديون. لم تكن تلك المكتبة مجرد متجر لبيع الكتب الإنكليزية بل كانت دار نشر أيضا جريئة ومغامرة وهو ما أكّده قيامها بنشر رائعة جيمس جويس “يوليسيس” التي رفضت دور نشر عديدة نشرها. غير أن الأهم من ذلك أن تلك المكتبة سرعان ما صارت مكانا يجتمع فيه كبار الأدباء والفنانين، مَن يقيم منهم في باريس ومَن يأتيها زائرا. حتى أن الكاتب الأيرلندي جويس الذي حُظر توزيع روايته التي طبعتها الدار في الولايات المتحدة وبريطانيا اتخذ من المكتبة مكتبا له.المكتبة الأكثر شهرة في العالم كان لها نصيب في فيلم الأميركي أندي وارهول "منتصف الليل في باريس". كانت جنة الكتب ملهمته في تخطي عتبة الزمن ليرى كما يفعل النائم لقاءات متخيلة بين فرسان الأدب والفن في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي ويُقال إنه كتب روايته الشهيرة “يقظة فنغان” هناك. وهي الرواية التي يُقال إن عثور أحد ضباط الاحتلال الألماني على نسخة منها في مكتبة شكسبير وشركاه كان سببا في إغلاق المكتبة عام 1941. نبوءة همنغواي لم تكتمل حين تم تحرير باريس من الاحتلال النازي اعتبر أرنست همنغواي، الروائي الحائز على نوبل الحدث تحريرا لذلك المعبد الأدبي، غير أن المكتبة لم تفتح أبوابها إلا عام 1951 من قبل مؤسسها الثاني جورج ويتمان، الأميركي هو الآخر وفي عنوانها الحالي. في البدء كان المتجر الجديد يحمل عنوان “لو ميسترال” غير أنه سمّي عام 1964 بـ”شكسبير وشركاه” عام 1964 تكريما لأثر سيلفيا بيتش واحتفاء بالذكرى 400 لميلاد المسرحي الإنكليزي. المكتبة التي لا تزال توفّر لزوارها الكتب القديمة والجديدة على السواء لا تزال سخية في التعامل مع قراء الكتب مجانا. الكثير من أولئك القراء كانوا أدباء شبابا طُلب منهم أن يقوموا بخدمات في المكتبة مقابل مبيتهم. شيء أشبه بالخيال حين نعرف أن أكثر من ثلاثين ألفا من القراء قد ناموا في المكتبة على أسرّة وجدت مدسوسة بين رفوف الكتب. “اليوتوبيا الاشتراكية التي تتنكر كمكتبة” العبارة التي كان يرددها جورج ويتمان في وصف متجره الذي وصفه الكاتب الأميركي هنري ميلر الذي عاش في باريس فقيرا ردحا من الزمن بـ”عجائب من الكتب”. لقد تحوّل ذلك المتجر إلى مكان يتجمع فيه ممثلو التيارات الأدبية الطالعة في باريس البوهيمية. كل أفراد “جماعة بيت الأميركية” كانوا هناك. ألين غينسبيرغ وغريغوري كورسو ووليام س. بوروز وكان يرتادها بين حين وآخر جيمس بولدين وأنييس نين وخوليو كورتازار ولورنس داريل وريتشارد رايت وماكس أرنست وبرتولت بريخت ووليام سوريان. كان ويتمان ينظر إلى استعادة الاسم الأصلي “شكسبير وشركاه” باعتباره “رواية في ثلاث كلمات”. لذلك حرص على أن يترك الطامحون إلى النوم في مكتبته صفحات مكتوبة بخطهم هي جزء من سيرتهم لتكون تلك الصفحات جزءا من أرشيف المكتبة الخيالي.تحول مكتبة شكسبير وشركاه إلى مقصد سياحي لطالما حلم الكثيرون بالنوم في مكتبة. ولكن النوم في مكتبة استثنائية هي شكسبير وشركاه في مدينة استثنائية هي باريس بعد يوم من العمل بين الكتب لا بد أن يجلب معه أحلاما من طراز خاص. مطبخ الحداثة لا بأس من مقهى أدبي مجاور لا يقدم إلا المأكولات النباتية. وكانت مجلة “ميرلين” التي صدرت عن المكتبة قد اكتشفت صموئيل بيكيت الحائز على جائزة نوبل في ما بعد حين نشرت نصوصه بالإنكليزية. صاحب مسرحية “في انتظار غودو” كان أيرلنديا هو الآخر. كما نشرت المجلة نصوصا للبريطاني تيد هيوز والمكسيكي أوكتافيو باث والويلزي توني كوريتس. “أصوات باريس” وهي مجلة أدبية أخرى صدرت عن المكتبة وكان الشاعر الويلزي توني كورتيس والكاتب المسرحي الأيرلندي والروائي سيباستيان باري من اكتشافاتها. ومن المنشورات الأخرى التي تم إنشاؤها من المكتبة مجلة فرانك التي حررها ديفيد آبل فيلد بمساهمات من كتاب مثل مافيس جالانت وجون بيرغر. أما مجلة ويتمان الخاصة فقد كانت مجلة باريس، أو “استعراض رجل فقير في باريس”، كما وصفها، فقد ساهم فيها لورانس فرلينغهيتي، جان بول سارتر، مارغريت دوراس، بابلو نيرودا، وفي طبعة أحدث لوك سانتي، ميشيل هويليبيك وريفكا غالشن. وقد صدر العدد الأول منها عام 1967 أما آخر عدد فقد صدر عام 2010. لم يؤثّر تحوّل مكتبة شكسبير وشركاه إلى مقصد سياحي على نهجها الصارم في التنوير الثقافي. هناك مهرجان أدبي يُقام كل سنتين في الحديقة المجاورة للمكتبة وقد شارك فيه ذات مرة بول أوستر كما أن المكتبة أطلقت عام 2010 جائزة باريس الأدبية للرواية غير المنشورة. لا يزال شعارها “أعط ما تستطيع. خذ ما تحتاج إليه” قائما. النوم مجانا مقابل القراءة المجانية والعمل بين الكتب. وصفة أميركية وجدت في باريس ضالتها الجمالية.
مشاركة :