الاتحاد الأوروبي مستقر لكن لم يخرج من منطقة الخطردخل الاتحاد الأوروبي في الربع الثاني من سنة 2017 مرحلة أكثر استقرارا وأمنا بخصوص مستقبله مقارنة بالأوضاع منذ يونيو 2016، غداة التصويت لصالح خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي. ويبدو أن بروكسل بدأت تتأقلم مع فكرة البريكست محاولة الاستفادة منها قدر الإمكان، خصوصا بعد الخسارة التي مني بها الشعبويون من الرافضين للاندماج الأوروبي بعد الانتخابات الفرنسية. وتتطلع أوروبا اليوم إلى الانتخابات الألمانية والأدوار التي يلعبها الاتحاد، ككتلة موحدة، على مستوى التفاعلات الداخلية والتطورات الخارجية لتجاوز منطقة الخطر.العرب [نُشر في 2017/08/02، العدد: 10710، ص(6)]الهدوء لا يعني تجاوز العاصفة لندن – قبل بضعة أشهر بدت النهاية قريبة لمشروع الاندماج الأوروبي، وشكّك كثيرون في جدواه، وتحدث البعض عن تفككه في سنة 2017، وذلك على ضوء التصويت البريطاني لفائدة الخروج من الاتحاد وصعود الأحزاب الشعبوية في عدد من الدول الأعضاء، لكن أدت خيبة الأمل الواسعة في سياسة “أميركا أولا” للرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى إعادة إيقاد شمعة الأمل في الاتحاد الأوروبي باعتباره المدافع عن نظام العالم الليبرالي. وبعد صعود مدوّ للقادة الشبعويين المؤيدين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي بعد البريكست، جاء فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية على حساب زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، ليبرهن أنه باستطاعة المرء الفوز بالانتخابات وهو يحمل رسالة مؤيدة للاتحاد الأوروبي، وهي فكرة بدا أن أغلب السياسيين الوسطيين الآخرين في أوروبا تخلوا عنها. وتضاعف الأمل في ظل ما يصفه الخبيران في معهد كارنغي الدولي لدراسات السلام، ستيفان لهتي وتوماس فلاسيك، بالانتخاب الرديء لتيريزا ماي في المملكة المتحدة الذي أبرز التقلبات المتأصلة في عملية البريكست. ويرسم لهتي وفلاسيك في دراسة نشرها المركز صورة عن مستقبل الاتحاد الأوروبي ويحددان إلى أي مدى تجاوز هذا الاتحاد مرحلة الخطر، وهل حقا “نشهد عودة الاتحاد الأوروبي كحلّ، وليس كمشكل”، على حد تعبير رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك. ولا ينفي الباحثان أنه في خضم الأحداث الأخيرة لم يعد الاتحاد الأوروبي يبدو كبحر من المشاكل بل كملاذ من الاستقرار، لكنهما يتساءلان هل الاتحاد الأوروبي حقا يُبعث من جديد مثل طائر الفينكس من رماد أزماته وصراعاته المتعددة؟، ليجيبا على هذا التساؤل في بقية الدراسة ويوضحا كيف يمكن أن يكون الدعاة لمستقبل مشرق للاتحاد الأوروبي مخطئين بنفس الدرجة التي كان عليها مسوّقو فكرة نهاية المشروع قبل أشهر قليلة.الاتحاد الأوروبي لم يخرج من النفق بعد، لكن على الأقل لديه الآن الطاقة للمضي إلى الأمام ويعيد اكتشاف حس الاتجاه لديه تقدم ولكن.. على الرغم من تحقيق بعض التقدم، لم يتم حل أي من المشاكل الهيكلية التي تحف بالاتحاد الأوروبي، إذ بقيت منطقة شينغن الخالية من جوازات السفر ومنطقة اليورو هيكلين يناسبان الطقس الهادئ ولا يكتسبان المتانة الكافية للتعامل مع الصدمات الكبرى غير المتماثلة. وتبقى المناطق الجيوسياسية المجاورة في الشرق والجنوب مضطربة ومليئة بالأخطار والشكوك. وحتى المحرك الدافع للطموح بالنسبة إلى أوروبا (أي تراجع اهتمام أميركا في لعب دور الضامن الأساس للنظام الدولي) بقدر ما يجلب فرصا يجلب كذلك مخاطر وتحديات. وهناك خطر يتمثل في إمكانية تغاضي أوروبا الراضية عن نفسها عن مختلف التحديات الملموسة التي تقف أمامها. وبينما يحق للزعماء الأوروبيين الشعور بالثقة لوضع طموحات جديدة لكتلتهم، يجب أن تعتمد هذه الأهداف على فهم متين لنقاط ضعف الاتحاد الأوروبي وتقييم واقعي لقدراته، فدون مثل هذا الكبح الواقعي قد يعيش الحماس الأوروبي مدة قصيرة، وقد يفسح المجال لانحدار جديد نحو التشاؤم، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال مجموعة من القضايا من أبرزها: *أخبار اقتصادية سارة، لكن إلى أي حد هي مستدامة: الاقتصاد الأوروبي يمر بعامه الخامس من الانتعاش ويبدو أن حلقة حميدة بصدد التشكل: الثقة تحرر الناس للشروع في الإنفاق، مما ينعش قطاعات البناء والبيع بالتفصيل والعقارات ويحسن من آفاق البنوك الأوروبية. ومع تحسن وضع البنوك نوعا ما، تتراجع المخاوف المتعلقة بتكرار الأزمات البنكية والجبائية، مما يفضي إلى المزيد من الإنفاق، لكن ببقاء النمو في مستوى دون 2 بالمئة يبقى النمو مخيبا، كما تتصارع عدة دول إلى الآن مع مخلفات الأزمات بما في ذلك ارتفاع نسب البطالة وارتفاع مستويات الديون. وأصبح النموذج الاقتصادي الأوروبي معرضا للانتقاد بشكل متزايد، ومن ذلك أن أصبحت مسألة تحرير التجارة داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه مسألة خلافية في أوروبا بشكل عميق بعد أن كانت مصدرا للنمو لفترة طويلة. ونتيجة لهذا الخلاف استكملت اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وكندا بصعوبة شديدة، أما الاتفاقية التجارية الأوروبية اليابانية التي أمضيت في يوليو فقد استفادت من رغبة الطرفين في أن يبرهنا لترامب بأن برنامج التجارة الحرة يمكنه أن يزدهر حتى في غياب الزعامة الأميركية، لكن عملية المصادقة قد تكشف أن الكثير من المواطنين أقرب إلى آراء ترامب منه إلى آراء توسك في الموضوع.دونالد توسك: نحن نشهد عودة الاتحاد الأوروبي كحل، وليس كمشكل *الهجرة، هل هو الهدوء الذي يسبق العاصفة المقبلة: بالرغم من تراجع العدد الجملي لللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا، لا تزال هذه القارة تتصارع مع الآثار السياسية البعديّة للأزمة التي بدأت في سنة 2015. لقد أصبحت المواقف من الهجرة أكثر سلبية بدرجة كبيرة في الكثير من البلدان وذلك بوجود مخاوف من الإرهاب والجريمة، لتغذي مشاعر كره الأجانب وتتسبب في حلقة مفرغة من فشل اندماج القادمين الجدد وتصاعد التوترات وزيادة شعور المقيمين المولودين في الخارج بالاغتراب. *الشعبوية، هل هي حقا ليست وباء بل هي مرض مزمن: على الرغم من النكسات الأخيرة، ليس الشعبويون بأي حال من الأحوال قوة مستهلكة، حيث مازالت الأحزاب الوطنية الشعبوية في سدة الحكم في المجر وبولندا أين ينشرون سياسات مشككة في الاتحاد الأوروبي ومعادية لليبرالية، وهي كذلك جزء من حكومات ائتلافية في أماكن أخرى. ويبدو أن الميزة الغالبة في السياسة الأوروبية اليوم هي تقلبها الكبير، مثلما قد تشهد على ذلك رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. ويشير لهتي وفلاسيك إلى أنه في بعض الأحيان يستفيد الاندماج الأوروبي من حدوث تحولات قوية في المزاج الشعبي (مثل انتخاب ماكرون رئيسا لفرنسا)، لكن العكس قد يحدث بالدرجة نفسها من السهولة. ومن المرجح أن يحقق الشعبويون من الجناح اليميني نتائج جيدة في الانتخابات البرلمانية المقبلة في النمسا وإيطاليا حيث قد تؤدي نتائج جيدة يحققها كل من حركة النجوم الخمس والرابطة الشمالية الرافضتين لدخول إيطاليا منطقة اليورو إلى تجدد الاضطراب في الأسواق المالية. الاتحاد الأوروبي مازال فاعلا دوليا لم تحل إصلاحات معاهدة لشبونة النقائص الهيكلية الأساسية في السياسة الخارجية الأوروبية المتمثلة في وجود سياسات خارجية وطنية موازية ومطلب وجود عملية صنع قرار بالإجماع. ولم تستغل الدول الأعضاء الإمكانيات التي يوفرها الهيكل المؤسساتي الجديد استغلالا كاملا، وتستمر البلدان الكبرى في إعطاء الأولوية لسياساتها الخارجية الوطنية، والكثير من البلدان الأصغر تتجنب تكاليف وأخطار العمل الجماعي الجدي. وتخلص دراسة معهد كارنغي إلى أنه دون شك يوجد الاتحاد الأوروبي اليوم في حالة أفضل مما توقع أغلب الملاحظين في بداية سنة 2017، لكن هذا التحسن هو تحسن نفسي إلى حد بعيد، فهو مستمد من آفاق اقتصادية أفضل ومن عدم تحقق بعض التهديدات المنظورة، مثل انتصارات الجناح اليميني المتوقعة في هولندا وفرنسا. بيد أن الثقة المكتشفة حديثا لن تدوم طويلا إذا أغمضت عيون زعماء الاتحاد الأوروبي عن خطورة ما تبقى من التحديات الخارجية والداخلية. بدل ذلك، يدعو لهتي وفلاسيك الاتحاد إلى أن يحوّل هذه الثقة إلى طاقة إيجابية لتطوير استراتيجيات واقعية لمعالجة هذه المشاكل. لم يخرج الاتحاد الأوروبي من النفق بعد لكن على الأقل لديه الآن الطاقة للمضي إلى الأمام من جديد وليس أمامه إلا أن يعيد اكتشاف حس الاتجاه لديه.
مشاركة :