قدر تقرير رسمي للبرلمان البريطاني، حجم الخسائر التي تعرض لها دافعو الضرائب جراء خصخصة مؤسسة البريد الملكي، بنحو مليار جنيه استرليني. التقرير أثار ضجة في الدوائر الاقتصادية البريطانية وطرح تساؤلات من قبيل: "هل تقف بريطانيا على أعتاب فضيحة اقتصادية يمكن لها أن توقف قطار الخصخصة الذي أطلقته الحكومة"؟، و"هل يمكن أن تجرف تلك الفضيحة في طريقها بعضا من أركان الحكم"، "أم أن الأمر – كما يصوره أنصار الحكومة - على ضخامته لن يتعدى زوبعة في فنجان"؟ وقطار الخصخصة ماض في طريقه ليسحق كل من يحاول الوقوف ضده. الفضيحة باختصار تتمثل فيما أعلنه تقرير للجنة برلمانية من أن خصخصة مؤسسة البريد الملكي، أدت إلى خسارة مليار جنيه استرليني. وسبب الخسارة الضخمة يكمن في أن الحكومة سعرت قيمة أسهم المؤسسة العريقة، بأقل من قيمتها الحقيقية. فقد سعرت قيمة السهم بثلاثة جنيهات استرلينية و30 سنتاً، لكن بمجرد طرحه للتداول قفز السعر إلى ستة جنيهات استرلينية و18 سنتاً ليتراجع الآن إلى حدود أربعة جنيهات و73 سنتاً. وفي قلب العاصفة التي بدأت ملامحها تتشكل في أعقاب الإعلان عن تقرير البرلمان، يقف وزير الاستثمار فينس كابل المسؤول الأول، والمخطط الأساسي لعملية خصخصة مؤسسة البريد. ولـ "الاقتصادية" يصرح مات فيليب أحد مستشاري الوزير والمسؤول عن ملف الخصخصة قائلاً "تقرير البرلمان مليء بالمعلومات الخطأ، ويكشف عن عدم فهم لتفاصيل عملية خصخصة مؤسسة عملاقة كمؤسسة البريد الملكي، والأسعار التي حددت كانت هي الأفضل في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عندما انطلقت العملية، وتغيير أسعار الأسهم بالارتفاع والانخفاض شيء طبيعي للغاية". ويضيف "وعلى الرغم من ذلك فإن الوزير كابل سبق تقرير البرلمان بالإعلان عن تشكيل لجنة لتقييم تجربة بيع مؤسسة البريد والدروس المستفادة سواء سلباً أم إيجاباً". وإذ يعتقد البعض أن إقدام الوزير البريطاني على تشكيل تلك اللجنة، قبل يومين فقط من إصدار البرلمان لتقريره، يكشف عن حجم القلق الذي يعتري وزارة الأعمال، خاصة في ظل الهجوم الذي تتعرض له لعدم اتباعها معايير أكثر صرامة في التقييم السعري للأسهم. ويشير مختصون اقتصاديون إلى أن الوزارة قامت بذلك في محاولة لكسب مزيد من التأييد الشعبي للحكومة، عبر امتلاك أكبر عدد من الأشخاص كميات من الأسهم المطروحة للبيع. وكان وزير الأعمال فينس كابل قد صرح في أعقاب عملية الخصخصة بأنها "ناجحة"، وأن "الحكومة نجحت في تحقيق جميع أهدافها" وأعلنت الوزارة في حينها أن بيع 60 في المائة من مؤسسة البريد حقق ملياري جنيه استرليني لمصلحة دافعي الضرائب. أول ردود الفعل المرحبة بتقرير البرلمان جاءت بطبيعة الحال من المعارضة. فوزير الأعمال في حكومة الظل تشوكا يومنا صرح للإعلام البريطاني قائلاً "تقرير اللجنة البرلمانية يكشف بوضوح ما كنا ننادي به من شهور، فالخصخصة لم تكن في مصلحة دافعي الضرائب، إنها تصب في مصلحة أصحاب الملايين من سكان المدن، هؤلاء يكونون دائماً في المقدمة بينما الجمهور لا يحصل على شيء". ويعتقد البعض أن اتساع نطاق تلك القضية، وتركيز وسائل الإعلام عليها، لربما يمثل عائقاً أمام الحكومة على المضي قدماً في برنامجها لخصخصة مزيد من المؤسسات المملوكة للدولة. ولـ "الاقتصادية" تعلق الدكتورة هيلين باربت أستاذة مادة الاقتصاد الجزئي في جامعة ليدز قائلة "الحكومة البريطانية تخطط لتخصيص أصول وممتلكات عامة بقيمة 20 مليار جنيه استرليني، خلال السنوات الست المقبلة لتقليص الدين العام، أبرز هذه الأصول الحصة الحكومية في بنك لويدز ورويال بنك أف أسكوتلندا والجزء المتبقي من مؤسسة البريد الملكي، وحصة الحكومة البالغة 40 في المائة من قطار اليورستار، ولا شك أن الجدل الناشئ عن الأخطاء التي وقعت خلال عملية بيع مؤسسة البريد ستخلق رأياً عاماً غير مرحب بالمضي قدماً في هذا الاتجاه". وتضيف "المشكلة تكمن في أن الخصخصة جزء أساسي من برنامج الإصلاح الحكومي الذي تتبعه الحكومة، من منطلق أن التخلص من مؤسسات القطاع العام سيسهم في تخفيف الأعباء الاقتصادية عن الحكومة، ومن ثم الحل الأمثل ليس في النظر في الخصخصة كفكرة، وإنما في الآليات المتبعة في عملية تقييم القيمة الحقيقية لأسهم الشركات والمؤسسات المطروحة للبيع، وكذلك السبيل الأمثل لبيعها". إلا أن اقتصاديين حكوميين يعتقدون أن ما يعتبر خطأ في التقييم السعري من قبل وزارة الأعمال لقيمة أسهم مؤسسة البريد الملكي، وتقييم الأسهم بأقل من قيمتها الحقيقية لربما يمثل حافزاً للمضي قدماً في سياسة الخصخصة. ولـ "الاقتصادية" يعلق جون استيت المختص الاقتصادي في حزب المحافظين قائلاً "علينا أن نقر بوقوع أخطاء في خصخصة البريد الملكي، لكننا في أول الطريق، وتقييم أسعار الأسهم بأقل من سعرها لربما مثل حافزاً لقطاع أكبر من المواطنين للمشاركة في العملية بشراء الأسهم، فعملية تقييم سعر السهم بأعلى من قيمته الحقيقية، وشراء المستثمرين له ثم تعرضهم للخسارة، لربما وجه ضربة مؤلمة لعملية الخصخصة، وأفقد كثيرا من المواطنين الثقة بها أو بأنها تعود عليهم بالربح". إلا أن هذا المنطق يتناقض مع ما جاء في التقرير البرلماني من أن "النصائح السيئة التي قدمت للحكومة أدت إلى تقييم ضعيف للقيمة الحقيقية للأسهم، وأن الفشل في طرح أسهم مؤسسة البريد بما يتفق مع قيمتها الحقيقية، لم يعط الاعتبار المناسب لتعظيم القيمة المالية لمصلحة دافعي الضرائب". ولا تعد الخسارة التي قدرتها اللجنة البرلمانية بمليار جنيه استرليني هي المشكلة الوحيدة التي يمكن لمعارضي الخصخصة البناء عليها ومهاجمة الحكومة، بل أيضاً القلق الذي أعربت عنه اللجنة مما يعرف بـ "المستثمرين المفضلين"، وهي مجموعة المستثمرين الذين يحصلون على كمية كبيرة من الأسهم قبل بدء عملية التعويم، إذ يفتح هذا الاتجاه الباب على مصراعيه لانحيازات حكومية لمجموعة من رجال الأعمال دون أخرى.
مشاركة :