كل نص هو تجربة ذاتية ومعرفية وذهنية للكاتب لا تتجرد عن زمنها، وهذه التجربة بمستوياتها المختلفة بين الكتّاب هي التي تُختَبر في القراءة مثلما تختبِر القارئ المتعاقب مع الزمن.العرب محمد حياوي [نُشر في 2017/08/03، العدد: 10711، ص(14)] عشرات الأسئلة والمواقف والأحداث والتداخلات والصدامات والخلافات، باتت تكتنف عالمنا العربي من محيطه إلى خليجه. كلّها يعتقد البعض، وهو بعضٌ كثير في الحقيقة، وغير منصف، ومتطرّف إلى حدٍ ما، بضرورة أن يكون للمثقف رأي فيها، ويجب أن يكون هذا الرأي حاسماً وواضحاً ولا يقبل الجدل أو اللبس. المثقف العربي التائه في زحمة المواقف تلك، الحائر أمام تمزق الجغرافيا، المصدوم من فداحة حضور التاريخ في حياتنا، المهموم بإيجاد السبل البديلة لتوصيل صوته الإبداعي إلى القارئ، الساعي لسدّ رمقه مما يكتب أو يوزع، الذي يعيش على حافّة الفقر، هو الوحيد المطالَب بتحديد موقفه من الأزمات السياسية العابرة للبلدان على مساحة الوطن العربي. ولأن الساسة والجنرالات وواضعي الاستراتيجيات ومخترعي الخرق، من “صنّاع” القرار، لا يكتبون المقالات وليست لهم أعمدة صحفية أو حضور في مواقع التواصل الاجتماعي، فإن المثقف العربي المسكين وحده مطالب بالوقوف في وجه الإعصار وتحليل ظاهرته، بما يمتلكه من أدوات ونظرة استقرائية متقدمة، في الوقت الذي يهرب منه الجميع ناجين بجلودهم. ولم تشفع للمثقف العربي مواقفه المعروفة من القضايا الكبرى، مثل القضية الفلسطينية ووقوفه بوجه نزعة التطبيع الكاسحة، التي تحاول التسرب مثل الأميبيا التي تغيّر شكلها وأسلوبها في كلّ مرّة، ولا وقوفه، في الغالب، بوجه الأنظمة الدكتاتورية وتشرده في المنافي والبلدان البديلة أو المؤقتة. فطالما تنبأ المثقف، سواء بواسطة منتجه الإبداعي أو طروحاته، بقرب حلول كارثة التاريخ، لكن لم يصدّقه أحد في الحقيقة، لا السياسيين ولا جمهور القرّاء. واليوم حيث تشتدّ الأزمات وتتداخل المحن، لا يمكن لأي مثقف، سواء أكان عربياً أم غربياً، ألا يفقد استقراره النفسي، لأنه يكتب أو يرسم أو يعزف في مناخ مضطرب، ويتوجه بهذا النتاج إلى متلقٍ مضطرب أيضاً، ناهيك عن تراجع الأولويات في مثل هذه الظروف المكفهرة. وفي الغالب فإن الثقافة هي أوّل من يتدحرج إلى أسفل القائمة، نظراً للطابع الأرستقراطي الذي تتسم به، حين يصبح الخبز حقيقة سوداء، والاطمئنان على ضمان لقمة العيش شعيرة مقدّسة. بالتأكيد ينبغي أن يكون للمثقف، كخلية وعي متقدم في مجتمعه، موقف مما يجري من أحداث ومتغيرات، بل ينبغي على هذا المثقف أن يكون قدوة للتيّارات الشعبية والأجيال الثورية المتعاقبة، انطلاقاً من معارضته الحتمية للأنظمة والأفكار الرجعية المتخلفة. إنّ الهموم التي تعتري المثقف العربي في عصرنا هي بالتأكيد غير تلك التي تعتري نظيره في الغرب، التي تتمحور في الغالب حول قضايا الحريات والتغول الرأسمالي وقضايا انتهاك البيئة وحقوق الحيوان وغيرها من الهموم، التي لو قورنت مع مثيلاتها في العالم العربي لأصبحت نوعاً من الترف والتبطر. ففي عالمنا العربي ثمّة قضايا مصيرية كبرى تعتمل على السطح أو تحته، يشيب لها شعر الرضيع، وثمّة دول عريقة مهدّدة بالتلاشي والاختفاء، وأيديولوجيات سوداء تسعى لاستلاب حاضر الإنسان العربي وتسميم حياته ومصادرة مستقبله، وجميعها قضايا ينبغي للمثقف العربي أن يكون له رأي فيها، لكن نتيجة لكثرتها وتداخلها ومجانيّتها في بعض الأحيان، يصبح من الاستحالة اللحاق بتفاعلاتها وتمحيصها واتخاذ موقف عقلاني إزاءها، ومن خطورة تلك الأوضاع، تهميش القضايا الفعلية التي تهمّ جوهر الإنسان العربي وطموحاته وأحلامه، ففي العراق مثلاً لا يمكننا الحديث عن الانتهاك المريع للبيئة والقضاء على الملايين من أشجار النخيل المعمرة، إذا كان الإنسان العراقي نفسه يحصده الموت المجاني يوميّاً، ومن هذا المثال البسيط وحده نستطيع أن نستقرئ محنة المثقف العربي اليوم إزاء القضايا الكثيرة التي تعصف بالعالم العربي للأسف. كاتب عراقيمحمد حياوي
مشاركة :