وجدتْ كتب المذكرات والروايات التي تنتمي لأدب السجون طريقها إلى رفوف المكتبات العربية منذ منتصف القرن الماضي رغبة من مؤلفيها في إيصال أصواتهم التي حبسها المستعمر معهم في زنزاناتهم، وكشْفِ أساليب جلاوزة السجون ووسائل تعذيب السجناء الذين لم يكن لهم من ذنب سوى أنهم رفضوا وجود المستعمر وتدنيس تراب أراضيهم المقدسة.. لكن السجون لم تغلق بعد رحيل الاستعمار، بل ظلت سجون الوطن العربي - لا سيما في البلدان التي تتالت فيها الثورات – تستقبل كل مخالف ومعارض؛ فضلا عن أن سجون العدو الصهيوني ظلت تستقبل كل مقاوم. كثير من الروايات والمذكرات كتبها مؤلفوها عن تجارب وخبرات مروا بها، أو استمعوا إليها من زملائهم في المعتقلات. والكتابة عن أمر معروف وواقع معاش أسهل من الكتابة عن واقع متخيل, ولذلك لابد من الإشادة بجرأة الروائي السعودي الشاب ماجد سليمان على اقتحام أدب السجون عبر روايته (طيور العتمة) الصادرة عن دار الساقي عام 2014، إذ قدم لنا من خلالها وصفا دقيقا لزنزانات السجون وظلماتها، وما يتعرض له المساجين في سراديبها من ألوان التعذيب وأكثر الطرق والوسائل تنكيلا وإيلاما، وكذا ما يُقدم للمساجين من وجبات وطريقة تقديم هذه الوجبات التي لا تعدو كونها وسيلة أخرى من وسائل التعذيب! تتألف الرواية من نحو مائة وأربعين صفحة من القطع المتوسط، جزّأها المؤلف إلى عشر كراسات لتكون بمثابة مذكرات أو يوميات، يعرض فيها لسيرة ثلاثة عشر سجينا متهما بالمشاركة في خلية خططت لانقلاب عسكري. اختار المؤلف أسماءهم اختيارا مقصودا، فهناك بنيامين وميمون ومغفور وإلياس ونضال ومعن وغيرهم... وكأنه أراد أن يمنعنا من أن نوجه أنظارنا نحو ركن واحد من أركان وطننا العربي. يتحدث بالنيابة عن هؤلاء المساجين بطل الرواية (برهان) - وهو أحدهم- فيروي كيف دخلوا الزنزانة في يوم واحد ونالوا ألوانا من العذاب كان الموتُ أقلَها هوْلا؛ لدرجة أنه أصبح أمنية من أمانيهم، وكأني بهم يستحضرون قول أبي الطيب: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا حتى سعى إليه اثنان منهم انتحرا بطريقتين مختلفتين. وشهد برهان كيف أدى تعذيب زملائه إلى خروج أرواحهم واحدا بعد واحد على مرأى منه ومسمع، بل إنه شارك مع زملائه في قتل بعضهم، وانفرد بنفسه في قتل أحدهم مكرها من بعض جلاديه، ومع ذلك لم ينل حظه من الموت الذي ظل ينتظره كل هذه الأعوام فحكم عليه بالسجن المؤبد! لا أظنه غائبا عن ذهن المؤلف أن معظم من ألف في أدب السجون قد اهتم بمرحلة ما قبل السجن من مطاردة وتحقيق واعتقال، وما بعدها من إفراج ومتابعة ووصف لحياة ما بعد السجن، لكن روائينا أراد قصر روايته على ما يحدث داخل السجن، ولا أدل على ذلك من أنه حاول إبراز مغزاه من الرواية وهو تسليط الضوء على ما يحدث للمساجين – لا سيما السياسيين – داخل السجن من تعذيب وحشي حتى أصبح التعذيب بنيَّة الانتقام هو الهدف من السجن، وليس التقويم والإصلاح. ولا أدل من ذلك على استخدام المؤلف مكبر عدسته لتقريب لوحة علقت في مدخل السجن لنقرأ ما فيها بكل وضوح: «رفقا بالسجناء فهم آدميون»! وكأن هذه اللوحة تصرخ بمخالفة السجانين لكل معنى سام تحمله!. ولا يقف الروائي عند هذا الحد في الكشف عن هدف الرواية، ففي موضع آخر يشير إلى وسائل التربية التي يلجأ إليها السجانون كلما أعيتهم وسائل التأديب بالتعذيب، فيقول على لسان الراوي: «أصبحوا في كل يوم يأتون لنا بخطيب يقف على منبر رخيص ليعظنا كضالين، وما إن يأتي اليوم الذي يليه إلا ويقف مكانه ضابط بدين يصفنا بالمجرمين والخطرين أو تربوي يتكلم عن الأخلاق والإنسانية». هذه الأساليب التربوية لا تقل إيلاما عن وسائل التعذيب الجسدي لأنها تزيد من اتهامهم بالضلال والانحراف في حين أنهم يصرخون في داخلهم بعد أن أعياهم الصراخ في وجه جلاديهم بأنهم أبرياء.. إن هذه المحاضرات – من وجهة نظر المساجين - لا تقل عبثا عن اللوحة المعلقة في مدخل السجن التي توصي بالمساجين خيرا.. في الرواية عرض أشبه ما يكون بالعرض السينمائي، فدقة الوصف وتسلسل الأحداث تجعل القارئ وكأنما يطالع شاشة سينمائية وليس يقرأ من كتاب أمامه. وللتدليل على ما ذلك أختار من الرواية مشهدا لأحد الكلاب الضخمة التي يستخدمها السجانون لإيذاء المسجونين وتعذيبهم. يقول الراوي: «بيمينه سلسلة تنتهي آخر حلقاتها بحلقة كبيرة أديرت حول عنق كلب أسود ....». فهنا يبدأ الوصف معكوسا فيسلط الصورة على السلسلة ثم الحلقة في نهاية السلسلة ثم عنق الكلب الذي تحيطه الحلقة.. وبالطريقة العكسية نفسها يصف العامل وهو يحمل كوب الشاي: «يحمل بين أصابعه صحنا زجاجيا دائريا صغيرا عليه فنجان طويل زجاجي من الأعلى وخزفي من الأسفل نطت منه رائحة الشاي الأحمر النقي». ومما له علاقة با لعرض البانورامي في الرواية مشهد (كاتلين) - محبوبة السجين الراوي (برهان) - التي تطل عليه كلما نزل به العذاب ليمتزج طيف الحبيبة بواقع المعاناة الأليم: «وهم يضربونني بالخيزران الندي كانت كاتلين خيالا اضطجع جانبي، تلثمني كي أغيب عن حرارة اللسع الهاوي على عريي الهزيل. لم أفهم وقع اللثم والجلد عليّ لحظتها: لثمٌ حذو الجَلد وجَلد حذو اللثم، وغالبا ما يقعان عليَّ سويا، حتى غبت ولست أدري أكانت غيبوبتي من شدة الجلد أم من شدة اللثم»!.. ولا بد من الإشارة أخيرا إلى اللغة الفصحى التي كتبت بها الرواية وشملت حتى الحوارات، ويبدو لي أن المؤلف أراد لها أن تكون رواية عربية الهوية، وأن ينأى بها عما قد يفضح هويتها!
مشاركة :