الإقلاع عن فيسبوك كالإقلاع عن التدخين : كرم نعمة

  • 8/5/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الإقلاع عن فيسبوك كالإقلاع عن التدخين كرم نعمة تصف هانا جين باركنسون، وهي كاتبة في الموسيقى والتكنولوجيا والصحة النفسية في صحيفة الغارديان البريطانية تجربة أربع سنوات بعد الإقلع عن فيسبوك، بملتبسة المشاعر تشبه إلى حد كبير في نتائجها الإقلاع عن التدخين! لا يمكن أن تقول هانا إنها كانت سعيدة لأربعة أعوام من دون فيسبوك، وهي أيضا ليست حزينة أو نادمة، لذلك أبقت حسابها على فيسبوك بعد قرار التوقف عنه. عادت هانا إلى حسابها لتعيد التفكير في دلالة أن يكون المرء ليس من مجتمع ملياري مستخدم، كانت تريد في كل ذلك تغيير حياتها وعدم الاطلاع على وجهات النظر المراوغة التي يتقاسمها الناس بحرية غير مسبوقة، كانت أيضا تريد الابتعاد عما يخيف في فيسبوك، هناك النفاق والكراهية وحزم مريعة من الحقد، فضلا عن الشتائم البذيئة وتدوير الأكاذيب إلى درجة توحي بأن الناس يزدادون غباء. واليوم تعترف هذه الصحافية بأن قرارها بترك فيسبوك لم يكن صادرا عن وعي حينها، وتشبهه بالإقلاع عن التدخين وإلهاء نفسها بالرقص أو الغناء كي لا تدخن، لكن بماذا تلهي نفسها عن فيسبوك وهي تكتب يوميا تقريبا في صحيفة الغارديان المرموقة! التوقف عن فيسبوك لم يجعلها تشعر أنها بحالة جيدة، بل فجر لديها المزيد من مشاعر الفقدان! هذا أمر مقبول من هذه الكاتبة الشابة، لكنه يأخذ تفسيرا مختلفا عند زميلها تيم هارفورد الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز، الذي سبق أن عبر عن “احتقاره لفيسبوك”! معترفا بأن أسباب تحيزه ضد هذا الموقع هي نفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها فيسبوك: الخصوصية، وقوة السوق، والتشويش، والتفاعلات بالابتسامات الوهمية، وبقية الأمور الأخرى. بعد سنوات من هجران حسابها أعادت هانا دراسة طبيعة قرارها بوصفها كاتبة مهتمة بالصحة النفسية أيضا، وتوصلت إلى أن التوقف عن فيسبوك قرار محفوف بالمخاطر من جانبها، لأن كل ما سبق وأن كتبته على صفحتها مازال موجودا على الإنترنت، تلك هي المشكلة مع غوغل الذي لا ينسى أبدا “إلا إذا كنت تستخدم وضعية الحق في النسيان التي فرضتها المحكمة الأوروبية على غوغل حسب طلب الأشخاص”. ومع أن هذه الصحافية لم تلق ما يصل إلى درجة التحرش والتخويف قبل قرار التوقف عن حسابها، إلا أنها افتقدت وجودها في العالم الرقمي، لذلك تصف العودة إلى فيسبوك بعد فترة استراحة مدتها أربع سنوات، بالتجربة الشاقة حقا. دعونا نتقابل مع أطباء علم النفس وخبراء التكنولوجيا وأساتذة علوم الصحافة والإعلام، لنسأل ببساطة إن كان ترك فيسبوك يمثل تجربة شاقة لامرأة معرضة، وفق التقويم المفرط بالتفاؤل، إلى التحرش والتهديد على منصتها الرقمية أكثر من التحرش في الطرقات ومكاتب العمل، وفي الوقت نفسه تُجمع تحذيرات الأطباء والمحللين النفسيين على أن مواقع التواصل الاجتماعي سبب للتعاسة والاكتئاب، بل تؤدي أحيانا إلى الإصابة بنوع من الغباء! الأمر في النهاية يحمل لونين متناقضين لم نتفق تماما على أي منهما. كان الروائي الألماني الراحل غونتر غراس يصف الصداقات على فيسبوك بـ”الهراء” الذي لن يسمح لنفسه بأن يكون جزءا منه، فأي شخص لديه 500 صديق لا يوجد لديه أي أصدقاء، معتبرا التجارب الافتراضية الظاهرية على الإنترنت لن تكون بديلا عن التجارب المباشرة. لكن تجربة هانا جين باركنسون جديرة بوضعها تحت مجهر الدراسة ليس للاقتداء بها، بل لمعرفة أن الوظيفة التي وجد من أجلها فيسبوك تشظت تحت وطأة ما يُعبّر به المستخدمون عن أنفسهم أو ما يريدون أن يصلوا إليه، لا يمكن أن تجعل من ملياري مستخدم أنقياء، مثلما لا يمكن أن تتهم كل سكان فيسبوك بالأغبياء. إننا نشهد منذ أكثر من عقد ثقافة فيسبوك الكاسحة والمانعة لأي نصوص مخلصة ومعتدة بمتنها. أن يصبح مليارا مستخدم كتّابا، هذا أمر لا تقبله الكتابة نفسها، ولهذا يتبوأ الهراء الذي أسماه غراس منصة عالية على فيسبوك. لقد انساق كتاب وصحافيون ورجال دولة ودين وسياسة إلى الثقافة السائدة على فيسبوك، وعبروا عن أنفسهم بأوطأ المستويات، من دون أن تحول رباطة جأش بين ما كتبوه وبين أنفسهم على الأقل. فيسبوك مشجع متميز على التعجيل بالكتابة وهي امتداد للمشاعر المتسارعة غير المستقرة والمتهورة والتي غالبا ما تحدث ضررا. ولهذا يتساءل الروائي سلمان رشدي عن السبب الذي جعل الناس يعرّفون أنفسهم بما يكرهون! فيسبوك يعطيك الحجة السهلة للتعريف بنفسك بما تكره، إما بالانتقام وإما بالرد على سطحية الآخرين لتسقط في النهاية بدوامة الهراء المستمرة. التاريخ يمكنه تعليمنا شيئا مفيدا بالتوازي مع الهوس بفيسبوك، وفق تيم هارفورد، وهو ألا نصاب بهوس معرفة فكرة الشيء الكبير التالي، أي المعجزة التكنولوجية التي تظهر في معزل والتي تعمل على تغيير وجه جزء من الحياة مع إحداث موجة صغيرة بالكاد في مكان آخر. التجربة الحية التي يسديها الإنترنت للبشرية لا يمكن أن تجعلنا نتنازل عن قيمنا البشرية في ثقافة راسخة وليست ثقافة واهنة، أو كما يصفها غراس بالهراء. عندما أتحدث عن نفسي أشعر كم أنا محظوظ بأن أكون مراقبا من بعيد على حفلة الشجار والمزاعم والاستعراض الفارغ على فيسبوك، على الأقل كي لا أسقط في مشاعر الغيظ التي تصيب غالبية المستخدمين، ولا أحتاج بعدها أن “أدخن فيسبوك” كي أقلع عنه تجنبا لأمراض أشد من سرطان الرئة! كاتب عراقي مقيم في لندن باهر/12

مشاركة :