الفقد الثاني... المرأة المحبوبة ما سبق يقودنا إلى الحديث عن الفقد الثاني في حياة عيسى، الحب الثاني بعد الحب الأمومي هو بدرية تلك الفتاة التي كان يراها عندما يزور أمه في المستشفى يبقى حبها متمكنا منه حتى آخر الرواية وتبقى من الصور الحميمة في ذاكرته حتى نهاية الرواية: «صمم أن يعيش لحظات الذكرى مع بدرية وأجواء الحي ويغطي وجهه بالوسادة حتى لا تهرب عنه الصور الجميلة مع اختراق النور فتحات الغرفة المظلمة، هكذا قضى ليلته». (25) من الواضح أن عيسى لا يعيش في الواقع، بل في عالم أمه الرمزية، ومحبوبته المفقودة. وهنا يعبر السرد عن اللاوعي بشكل مكثف في الرواية لتصوير الرغبة الأوديبية في العودة إلى حضن الأم، وبدرية والوطن. فالمرأة عند عيسى هي الوطن الأول الذي فقده، والذي ظن أنه سوف يشفى منه بعد التنقل بين مدن عديدة ولكن من دون جدوى. رغم محاولته التعايش في منفاه الاختياري لندن، الذي يبقى يعذبه باستمرار شديد، تصبح حياته مقسمة إلى قسمين قسم واع مدرك لواقعه يحاول أن يتعايش معه قدر الإمكان، والدليل زواجه من ميري ابنة المسؤول الباكستاني وانجابه للأبناء والبنات، اللاتي يحملن أسم أمه و معشوقته بدرية. والقسم الثاني هو الرغبات اللا واعية المحملة بالحب والشوق والحنين إلى بدرية، والوطن مرتع ذكرياته مع أمه وبدرية والوجوه المحببة إليه. فتدور أحداث الرواية حول تشظي الشخصية بين واقعه وحلمه وتفاصيل ماضيه الجميلة حيث الحب والحضن الأمومي. وتتكرر لحظات الاستذكار للتفاصيل الحميمية في ذاكرته: «مسح عيسى دموعه ورحل مع جرح الغربة وأمه، ما أعظم الأم. تذكر هجرته وغربته بسبب فقدانه لأمه، كاد يبكي كالطفل بين يديها، لقد هربت من عيون الشمس إلى قلب الجليد، على كوابيس ما لا نهاية لها، تنفس الدخان الأسود وبرود الدم الإنجليزي وغاب في صمت. لقد تحرك كل عرق فيه». (67) الأمكنة المتعددة: علاقة تجاذب وتنافر. تتعدد الأمكنة في الرواية من الشارقة الحي الصغير الحاضن للجميع إلى ميناء البحرين، من ثم عدة مدن إنكليزية يتجول بها المهاجرون الذين يعيشون المنفى الاختياري. ومع تعدد الأمكنة تتعدى الرؤى والمواقف ووجهات النظر إلى المكان وثقافة وعادات وتقاليد سكان المكان. الإمارات الوطن الذي يحن إليه البطل بشكل متزايد، لولا ما حدث من فقد للأم لما تركه، وتمتد الصورة العاطفية ذاتها للبحرين، بينما لندن تأخذ صورة الغرب الآخر المختلف بثقافته وعاداته وتقاليده، والذي يستوجب على الشخصيات المهاجرة أخذ الحيطة والحذر والحفاظ على منظومة العادات والتقاليد الشرقية الأصيلة بمواجهة قيم الثقافة الغربية الحديثة المغايرة لمعالم الهوية العربية والإسلامية للشخصيات، والتي تشعر بخطر تهديدها مكونات الهوية العربية الأصيلة. ولذا نجد عيسى ينأى بأولاده إلى مكان ريفي هادئ لخلق بيئة مثالية لأبنائه ذوي الدماء الشرقية الإسلامية. لقد تم التعبير عن فكرة المنفى في الرواية بطريقة تقليدية قديمة من منظور حداثي، حيث الشوق والتوق الدائم لحضن الوطن والنفور من ثقافة البلد المضيف، في كثير من المواقف تتضح وجهة نظر الشخصيات تجاه المكان المضيف لندن من دون أن تتضح أي وجهة نظر إيجابية إزاء مكان احتوى هذه الشخصيات وقدم لها مأوى آمنا بعد هروبها من الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاتمة في أوطانهم. أمثلة النظرة السلبية للثقافة الغربية وإعلاء الثقافة الشرقية واضحة في النص، يقول عيسى في أحد المواقف لصديقه سمير: «الحمدالله أننا بعيدون عن صخب الدينة ودمارها، إنني أبعد أبنائي عن هذه المنكرات». (57) وفي موقف آخر يرد عيسى على ابن سمير القادم الجديد إلى لندن للدراسة، عندما يؤكد له على مجموعة الرسائل: «يضحك. العيون الزرق والشعر الأشقر. -لا يا بني لا تغتر بهذا لا يوجد أحلى من حلاوة الروح العربية، هكذا نحن لدينا كل جميل، لكن أجسادنا تطفح خارج مرسانا». (62) هنا لا بد أن نقارن بين تصور الشخصية التقليدي للمنفى والتصور ما بعد الحداثي للمنفى، إذا كانت شخصية البطل هنا تعيش تجربة ارتباط وثيق بالوطن والعادات والتقاليد والطعام مثل حنينه للوجبات الخليجية، وسكنه في حي بعيد عن لندن لكي يحافظ على شخصية أبنائه الشرقية، فهي تمثل هنا الارتباط الوثيق بوطن واحد وقومية واحدة رغم أنه اختار المنفى ولم يعش فيه مجبرا. يبدو أن الشخصية وثيقة الارتباط بالوطن وهو التصور التقليدي للمنفى والهوية الثابتة ذات الانتماء الوحيدة. بالطبع هذا يخالف صورة المنفى ما بعد الحداثي الذي يعاكس فكرة الأصل النقي، ويعتبر أن المنفى فرصة للتعايش الإنساني الغني بتفاصيل الاختلاف وتبادل الخبرات والتجارب الإنسانية. وفي الأدب العربي كتابات كثيرة تتناول هذه الفكرة الخصبة للمنفى. وقد عبر هومي بابا عن هذه الفكرة موضحا أن الظروف السياسية والاقتصادية قد تغيرت، وإن الهوية تعيش في فترة تحول كبير بسبب الهجرات، وانتفاء فكرة القوميات بالتصور التقليدي المحض التي برزت وقت الاستعمار. فمن الممكن أن تكون شخصية عيسى أكثر تفاعلا مع المكان الجديد وأكثر استفادة من ثقافة المضيف بدلا من الاتكاء على معنى واحد للهوية والانتماء والحب. نتمنى أن تخلص شخصياتنا الروائية اليوم إلى نفس خاتمة أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة»، إذ يخلصُ معلوف إلى خاتمة مهمة تعكس وجهة نظره الدقيقة في تأليف كتابه «الهويات القاتلة»: «أن يتمكن كل شخص من التماهي، ولو قليلاً، مع البلد الذي يحيا فيه ومع عالمنا اليوم. وهذا يعني عددا من السلوكيات والعادات التي يجب على كل فرد أن يكتسبها، وكذلك محاوريه أفرادًا وجماعات». (الهويات القاتلة، 129) الخاتمة يتبقى القول إن هذا العمل الجميل المطعم بروح وطنية عالية تعرض بإيجاز شديد تفاصيل تطور الإمارات العربية الحديثة، وصور القومية العربية بأوج مجدها وتجذرها في المجتمعات العربية، تشوبه بعض النقاط السلبية مثل تكرار الصدف والمفاجآت غير المقنعة منطقيا، كالتقاء عيسى بليلى في إنكلترا بعد أن رفض حبها له في البحرين، وقراءته لخبر وفاة بدرية وهو عائد في الطائرة إلى أرض الوطن. إضافة إلى ازدحام (النوفيلا) بكثير من الإشارات المكثفة من دون وجود تفاصيل غنية كان من الممكن استثمارها برواية جيدة في فضاءاتها اللغوية والإنسانية. * ناقدة وأكاديمية كويتية - أسماء الزرعوني، «الجسد الراحل»، رواية، الطبعة الثانية، الغد برس، 2015م. - معلوف، أمين (1999)، «الهويات القاتلة»، ترجمة: د. نبيل بهجت، دمشق: دار ورد.
مشاركة :