لقد خلقنا الربيع بأيدينا، وأحرقنا الربيع بأيدينا، وبأيدينا أشعلنا الفتن منذ الأزمنة الغابرة إلى غاية اليوم. وأما قدرنا التاريخي في الحساب الأخير فإنه متعلق بما كسبت أيدينا.العرب سعيد ناشيد [نُشر في 2017/08/07، العدد: 10715، ص(9)] في سياق الوسواس المؤامراتي الذي يملأ الأجواء، تسربت إلى النّفوس أساطير عجيبة حول ما كان يُسمّى بـ“الرّبيع العربي”، من بينها الزعم بأن ذلك الرّبيع البائد لم يكن سوى مخطط أميركي محكم من نقطة البدء إلى غاية الوأد، وقد صُمم خصيصا لأجل تفكيك الشرق الأوسط الكبير وتقسيم الدول المقسّمة إلى المزيد من الدويلات متناهية الصغر. ينطلق هذا التصور المؤامراتي من مبدأ أن دوائر الاستخبارات هي التي تحرك التاريخ وترسم مساراته من ألفه إلى يائه. ثم أنه تصور قد يعتمد على تأويلات مقرونة بوثائق مبتورة ووقائع منتقاة بعناية فائقة. فليس من باب المصادفة أن يتبناه أوّل الأمر أنصار ما يسمى بمحور “الممانعة”. أما الإسلام السياسي فكما لا يخفى، لم يكف يوما عن تبني نظرية المؤامرة في كل أحواله، أكان غالبا أم مغلوبا على أمره، متمكنا أم مستضعفا في الأرض، يضمرها حينا ويظهرها أحيانا. غير أن وسواس المؤامرة يصيب أيضا صنفا من اليساريين ممن يعتبرون إيران وحزب الله حليفين استراتيجيين في مواجهة الإمبريالية العالمية ولو بالعمامة واللحية والحجاب. ولسنا ندري أين ترك هؤلاء اليساريون فجأة حقوق الطبقة العاملة، وحقوق الأقليات، ومطلب العدالة الاجتماعية، وتحديات اقتصاد السوق، والحريات الفردية، إلخ. ثم أن نفس الأسطورة يتبناها أيضا عدد غفير من القوميين العرب ممن يبحثون عن “نخوة العروبة” في أرض “آيات الله العظمى”. غير أن المعضلة هنا لا تتعلق فقط بنظرية المؤامرة، وإنما بما ينجم عنها من تفكير اختزالي. تفكير يختزل كل قضايا العالم في عنوان واحد ووحيد، من خلاله يرى المرء الأحداث، ويحلل المعطيات، ويصدر الأحكام، ويطلق الاتهام. بمعنى أن ثمة من ينطلق من شعار محدد سلفا، فيجعله مفتاحا متعدد الاستعمالات لتفسير كل المعادلات الإقليمية والدولية منذ بدء الخليقة إلى يوم يُبعثون: الإسلام هو الحل، سلاح حزب الله خط أحمر، كلنا أردوغان، الأسد أو لا أحد، رابعة، الخلافة ستعود، كلنا غزة، أميركا هي الشيطان الأكبر، إلخ. بمعنى أن المرء هنا ينطلق من نقطة ثابتة لا تتغير لغاية تحليل كل القضايا، وتفسير كل الخبايا، واستقراء كل النوايا، سواء في الإطار الإقليمي أو الدولي، بل يجعلها معيار الحق والباطل في كل المسائل، داخليا وخارجيا، محليا وكونيا، في أقاصي الأرض وأدانيها. بلا شك، لا يُعبر الاعتقاد بأن ما كان يسمى بـ“الرّبيع العربي” صناعة استخباراتية سـوى عن تصـور ساذج ومضلل أيضا. غير أن دور ذلك الاعتقاد يعفينا من الإحساس بالمسؤولية عن تعاسة أحوالنا، فنصبح جميـعنا أبريـاء، طالما أننا مجرّد دمى تحركها خيوط المتحكمين في كل التفاصيل، والخارقين للطبيعة والجغرافيا والتاريخ. لعل هذا التصور يغري العقل الخامل، ويقدم له فطورا دسما على فراش النوم الوثير، وعسى أن يصبح السبات موتا سريريا. لكن لا بأس من محاولة إعمال العقل في إعادة تنظيم الذاكرة. علما بأن الذاكرة ميالة إلى الفوضى متى غابت عنها رقابة العقل. إن فوضى الذاكرة لهي الوضع الذي تستغله كل الأيديولوجيات الاختزالية قصد التحكم في العقول. لذلك لا يكون التذكير سوى إعمال للعقل لغاية إعادة تنظيم الذاكرة. إن الزّعم بوجود مخطط مدروس يستدعي في الحد الأدنى افتراض أن نقطة البداية نفسها كانت مدروسة بعناية فائقة. إذ لا يمكننا أن نتصور وجود مخطط دون نقطة بداية محددة بدقة. من العبث تصور وجود مخطط يراهن على منطلق قد لا يتحقق إلا مصادفة. فهل يُعقل أن نتصور بأن حرق التونسي محمد البوعزيزي لنفسه جزء من مخطط أميركي لإضعاف منطقة هي أصلا ضعيفة؟ هل يعقل أن نتصور بأن ما كتبه تلاميذ المدرسة الابتدائية في درعا السورية قبل اعتقالهم وقلع أظافرهم من طرف أمن المحافظـة كـان أيضا مخططا أميـركيا مدروسا لإسقاط نظام “الممانعة”، وإذا لم يسقط النظام نتهم أميركا؟ هل يمكننا أن نعتبر “حركة كفـاية” في مصر، و“صفحة كلنا خالد سعيد”، واعتصام “ميدان التحرير”، وقبل ذلك “صـدمة التـوريث الجمهوري”، كلها مجرد تكتيكات تتحكم فيها أياد شيطانية وملعونة تصنع ما تشاء وقتما تشاء؟ في واقع الحال، خلال الثلاثة أسابيع الأولى من ثورة الياسمين في تونس، كان الارتباك باديا على العالم كله، بما في ذلك “ثوار الساعة الخامسة والعشرين”: قناة الجزيرة، ويوسف القرضاوي، ورجب طيب أردوغان، والناتو، إلخ. بل العالم بأسره كان مرتبكا. لم يكن هناك أي مركز دراسات أمكنه التنبؤ بمتى وأين وكيـف ستندلع أول ثورة في القرن الحادي والعشرين؟ بل كان الظن المهيمن على الأجواء أن عصر الثورات مضى وانقضى. فعلا، فقد ظهرت محاولات مضنية لأجل احتواء الموجة والتحكم فيها، لكنها ظهرت متأخرة عن موعد انطلاق القطار، والذي انطلق جامحا منفلتا من عقال كل التوقعات قبل أن يغرق أخيرا في الوحل السوري، متسببا في اختلال دراماتيكي لا يرضي أي أحد. إن القدرة النسبية على تعديل الأشرعة لاستثمار اتجاه الرياح، لا تعني القدرة على التحكم في تحديد اتجاه الرياح. لقد فاجأت الثـورة التونسية العالم برمته، أما الثورة المصرية فلم تكن متوقعة على ذلك النحو من الحال والمآل، وكانت الثورة في سوريا مستبعدة بالنظر إلى أن الاستبداد قد مسح الأرض من كل الممكنات السياسية، وكان التوقع حول ليبيا يساوي صفرا، وهو ما يفسر الارتباك الذي أصاب الغرب في الموقـف من نظـام معمر القذافي قبل أن يتهور هذا الأخير في استعمال الطـائرات الحربية لقصـف المتظـاهرين العزّل. مجمل القول، لقد خلقنا الرّبيع بأيدينا، وأحرقنا الرّبيع بأيدينا، وبأيدينا أشعلنا الفتن منذ الأزمنة الغابرة إلى غاية اليوم. وأما قدرنا التاريخي في الحساب الأخير فإنه متعلق بما كسبت أيدينا.. حتى ولو كانت أيدينا تبدو مشلولة أو مغلولة بما كسبت أيدينا. كاتب مغربيسعيد ناشيد
مشاركة :