برع الشاعر العربي القديم في الوصف، فوصف لنا جَوَاده وناقته ودرعه وسيفه، ووصف لنا محبوبته وأطلال ديارها، ووصف لنا البيداء بكل مفرداتها فنقل لنا صورة بيئته التي كان يعيش فيها بكل تفاصيلها، في زمن انعدمت فيه آلات التصوير الفوتوغرافي. والمتتبع للشعر الغزلي القديم يجد أن الشاعر العربي قد وصف محبوبته وصفاً تفصيلياً؛ فوصف وجهها وعينيها، وشعرها، وقدّها ورائحة نَشرها. ومنهم من غالى فوصف كل ما فيها وصفاً صريحاً دون تحرّج. فإذا أمعنَّا النظر في الشعر الغزلي، نجد أن جميع المحبوبات بالشعر العربي القديم قد كنَّ من ذوات البشرة البيضاء، وقد كنَّ حور العيون، هيفاوات القدود، وغير ذلك من مواصفات الجمال المثالية المنتشرة في قصائد الشعر العربي القديم، فهل بالفعل كانت جميع المحبوبات على هذه الدرجة المثالية من الجمال؟ وهل لم يعشق أي شاعر من الشعراء القدامى واحدة من السمراوات أو القصيرات أو النحيلات اللاتي -بالطبع- كنّ موجودات في المجتمع العربي القديم؟ الإجابة عن هذا التساؤل قدمها لنا الشاعر صلاح عبد الصبور في كتابه "أقول لكم عن الشعر"؛ حين قال: ما حدث هو أن الشاعر العربي قد عامَل المرأة شعرياً كما عامل جواده وناقته، فوصف المثال لا الواقع. فالشاعر كان يصف محبوبته ليس بأوصافها الفعلية، ولكن بالأوصاف المثالية التي ينبغي أن تكون بالمرأة في نظره، فجاءت صور المحبوبات في الشعر العربي صوراً متقاربة وقريبة من المثالية؛ فعبلة في أعيننا هيفاءُ القوام كما قال عنها عنترة، وبثينة في أعيننا رقيقة جداً لدرجة أن فضيض الماء يخدش جلدها كما قال عنها جميل في شعره، وكذلك عفراء ولبنى وليلى وغيرهن من المحبوبات المنتشرات في قصائد الشعر العربي القديم. ومما لا أشكُّ فيه أن عبلة وليلى ولُبنَى وغيرهنّ لم يكُنّ -جميعهن أو معظمهنّ- على هذا القدر الفائق من الجمال كما تخيّلناه بعد قراءة القصائد التي قيلت فيهن. فقط كُنّ ساحرات الجمال في أعين الشعراء الذين أحبّوهن. ونظراً إلى أننا لم نرهُنّ رأي العين، فقد كنّا نراهُن في القصائد من خلال أعين محبيهنّ، فرأينا عبلة بعيون عنترة، ورأينا ليلى بعيون قيس الذي جُنّ بها جنوناً، فانطبعت في أذهاننا صور مثالية لهؤلاء المحبوبات ربما -وربما جداً- لو رأيناهُن بأعيننا لاختلف الأمر. ولعلّ أبرز دليل على ذلك ما قاله قيس في وصف ليلي: ألـم تعرفـوا وجهاً لليلـى شعاعُـهُ إذا برزت يُغْنـي عن الشمس والبـدر مُنَعّمـةٌ لـو قابـل البـدر وجههـا لكـان له فضـل مُبيـنٌ على البـدر ويقول أيضاً: إذا ذكرتْها النفسُ ماتت صبابـةً لهـا زفـرة قتـَّالة وشهيــق سقتنـي شمسٌ يُخجِل البدرَ نورُها ويكسف ضوءَ البرق وهو بَـرُوقُ وصف لنا قيس ليلى، ونحن نقرأ الوصف فنتخيّل وتنطبع في أذهاننا صورةُ ما تخيلناه. ولذلك، ليلي ساحرة الجمال في أعيننا كما هي تماماً في عينَي قيس. ولكن، دعونا نرَ ليلى في أعين من رآها حقيقةً لا تصوُّراً -غير قيس. في الأبيات التالية، نقرأ ردَّ قيس على من رأوها رأي العين فوجدوها غير جميلة؛ بل وقبيحة، وعندما نقلوا له الصورة الحقيقية لم يلتفت إلى كلامهم؛ بل نعتهم بالواشين، وقال لهم إنه يحبها على أي صورة كانت. فبعد أن قالوا له إنها قصيرة، جاحظة وشهلة العينين، كبيرة الفم، قال لهم إنه بحبها وسيظل يحبها حتى يموت. يقولُ لِىَ الواشونَ ليلَى قَصِــــيرةٌ فليتَ ذِراعاً عرضُ ليلى وطُولُها وإن بعينها لَعمرُك شُــهـــلــةً فقلت: كِرامُ الطيرِ شُهلٌ عيونُها وجاحظةٌ فَوهَهاءُ، لا بأسَ إنها منى كبدي، بل كلُّ نفْسي وسُؤْلُها فَدُقَّ صِلابُ الصّخرِ رأسَك سرَمداً فإني إلى حين المماتِ خلِيلُـــها والبيت قبل الأخير في هذه الأبيات يلخِّص ما نودُّ أن نقوله؛ فقيس يقول لهم بعدما أوضحوا له أن ليلى قبيحة: "لا بأس إنها منى كبدي"، فهو يراها جميلة وإن كانت قبيحة في أعين كل الناس. فنحن رأينا جميع المحبوبات جميلات؛ لأننا رأيناهن بعيون محبيهن، وربما -وربما جداً- لو كانت هناك صور فوتوغرافية لعبلة أو لبنى أو عفراء أو غيرهن من المحبوبات، لاختلف الأمر واختلف تذوُّقنا لكل تلك القصائد التي قيلت فيهن؛ لأننا وقتها سنقارن بين صورة المحبوبة في القصيدة وصورتها الواقعية، وربما فقدت كثير من القصائد مصداقيتها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :