إذا ورد ذكرُ القضاء الشرعي في المملكة فغالباً ما يتبادر إلى ذهن السامع الكثير من صور الخلل أو التقصير أو الإشكالات التي قد يكون يواجهها في مراجعته للمحاكم على اختلاف أنواعها، وبصفتي أحد من ينتسبون لمرفق العدالة قاضياً في السابق ومحامياً اليوم أطرح ُ هنا تساؤلاً: هل هذه الصورة السلبية التي جعلت الكثيرين يتحدثون عن قصور القضاء عن معالجة مشكلاتهم وفضّ نزاعاتهم بأحسن الوسائل، هل هي الصورة الحقيقية للقضاء الشرعي الذي يُمثّل الشريعة، ويرتكز على أحكام الكتاب والسنة؟ إن أهم جوانب توفير القاضي الكفء تكمن في إعداده العلمي وتأهيله النظري، وصقل جوانب العلم والفهم لديه، قبل التحاقه بالعمل في القضاء. ولأهمية هذا الجانب فقد جاءت موافقة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – قبل عدة سنوات بالتزامن مع مشروع تطوير القضاء، على الخطة الخاصة بتطوير المعهد العالي للقضاء والجواب الأكيد الذي لا شك فيه هو: أنه لا يمكن التسليم بوجود أي قصور في الشريعة التي يستند إليها قضاؤنا، فهي شرع الله المطهّر الذي جعله الله صالحاً لكل زمان ومكان، بشموله وعدالته وحكمته ورحمته. فأين مكمن ُ الخلل إذاً؟ هل يعود السبب إلى القضاة القائمين بهذا العمل؟ أم إلى عدم تقنين أحكام الشريعة ؟ أم إلى ماذا بالضبط؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه هنا، بهدف دحض أي شبهة يمكن أن تدور حول القضاء الشرعي ومدى كفايته لإصلاح مشاكل الناس. إن مُرتكز القضاء يدور في الحقيقة على القاضي الكفء. لكن كيف يمكن الحصول على هذا القاضي؟ وهل يمكن القول: بأن القاضي الكفء يستطيع منفرداً القيام بكافة أعباء القضاء الثقيلة، ولاسيما في هذا العصر الذي تعقّدت صور النزاعات فيه، وتشابكت العلاقات، وتزاحمت الخصومات؟ وإن أهم جوانب توفير القاضي الكفء تكمن في إعداده العلمي وتأهيله النظري، وصقل جوانب العلم والفهم لديه، قبل التحاقه بالعمل في القضاء. ولأهمية هذا الجانب فقد جاءت موافقة خادم الحرمين الشريفين – أيده الله – قبل عدة سنوات بالتزامن مع مشروع تطوير القضاء، على الخطة الخاصة بتطوير المعهد العالي للقضاء، التي تضمنت العديد من الجوانب الإيجابية الرائدة في سبيل تحقيق هذه الغاية. إلا أن هذه الخطوة منفردة قد لا تفي بالغرض في صناعة القاضي الذي نطمح إليه. وفي نظري فإن هناك الكثير من الخطوات التي يجب أن نأخذ بها حتى نصنع قاضياً شرعياً مهيأً للقيام بأعباء القضاء الشرعي، وأهم هذه الخطوات هي: 1-أنه يجب البداية بتأسيس القاضي منذ مرحلة دراسة البكالوريوس في كليات الشريعة، وإعادة النظر في مناهجها بما يتوافق مع متطلبات تأهيل القاضي، والتركيز على صناعة (الفقيه) بضرورة استيعابه لروح الشريعة وقواعدها العامة، ومناهج البحث في أحكامها، وطريق الاجتهاد في استنباطها من النصوص الشرعية. إضافة إلى الإلمام بالأنظمة وفهم حقيقة هذه الأنظمة وأهميتها وعلاقتها بالشريعة، وكيفية قراءة النصوص القانونية النظامية والاستنباط منها. وتكثيف المواد الخاصة بالقضاء، وتنمية الملكة والمهارة لديه في كيفية أداء هذه المهنة الشريفة، لأن العلم وحده لا يكفي لصناعة القاضي الكفء، إذ لا بد من المهارة مع العلم. ولو أننا خصصنا أقساماً خاصة بالقضاء ضمن كليات الشريعة لكان ذلك أفضل لأن التركيز فيه سيكون أكبر على الطلاب المراد اختيار القضاة من بينهم. 2-أنه ينبغي إعادة النظر في آلية اختيار القاضي، وشروط تعيينه، وذلك من خلال عدة خطوات هي: أ-ينبغي التركيز على القاضي منذ مراحل دراسته الجامعية، ومتابعة سلوكه العام، وملاحظة مدى فهمه، وقدرته على التصور والتحليل والمناقشة والبحث، ومستوى ذكائه، وقدرته على ضبط النفس وحسن التعامل، وغير ذلك من الصفات الضرورية للقاضي. ويكون لهذه التقارير التي كُتبت عنه على مدى سنوات، اعتبارها في اختياره للقضاء. ب-انه لم يعد مناسباً أبداً الاستمرار في تعيين القاضي على وظيفة القضاء بمجرد حصوله على المؤهل العلمي، وتمكينه من ممارسة القضاء فعلياً دون أن يكون عنده من الخبرة العملية الكافية، ما يعينه على القيام بأعباء القضاء، وذلك من خلال تنقله في عدة مراتب وظيفية من وظائف السلطة القضائية غير القضاء، كأن يعمل مستشاراً في المحكمة أو مدعياً عاماً أو محققاً، ثم بعدها يتم اختيار القضاة من بين المتميزين من شاغلي هذه الوظائف، بعد أن يكونوا جمعوا مع التأهيل العلمي، والخبرة العملية، وصولهم إلى مرحلة عمرية تتسم بالنضج، وهو ما يجعل القاضي أقدر على النجاح في هذه المهمة الشاقة، وأقدر أيضاً على اكتساب احترام الجمهور والمتقاضين، لما يرونه عليه من هيبة ورزانة مقترنة بمرحلة عمرية تجاوز فيها مرحلة الشباب المبكر الذي يعوزه التجربة والخبرة. وبعد أن نكون أكملنا مرحلة صناعة القاضي الكفء، ننتقل إلى مرحلة أخرى لا تقل أهمية ، وهي توفير الوسائل المعينة لهذا القاضي على النجاح في أداء مهمته، ولعل أهم هذه الوسائل ما يلي: 1-توفير الحقوق الوظيفية الملائمة لخطر وأهمية ومشقة وظيفة القضاء، وهي التي تكرر الحديث عنها طويلاً، وجرى طرحها مراراً، وذلك بإغناء القاضي عن التطلع لما في أيدي الناس، وضمان كافة احتياجاته الحياتية التي تعينه على التفرغ التام لمهنته، وصفاء الذهن والانصراف إليها، من راتب ومسكن وعلاج وتفقد حاجاته وقضاء ديونه ونحو ذلك. 2-توفير أعوان قضاة على مستوى كاف من التأهيل، بحيث يمكن الاعتماد عليهم في القيام بالكثير من الأعمال المساندة لعمل القاضي، والتي تُشغل القاضي عن مهتمه الأصلية. وتوفير هؤلاء الأعوان المؤهلين، لا يكون إلا باستقطاب المتميزين، وترغيبهم بالحوافز والمزايا المالية التي تكفل عدم تسربهم إلى جهات أخرى. 3-توفير كافة وسائل البحث والمعلومات التي تتيح للقاضي الحصول على المعلومة أياً كان نوعها، مما له ارتباط بعمله، سواء كانت المعلومة فتوى شرعية أو بحثاً علمياً ، أو نصاً نظامياً، أو غير ذلك. وربط المحاكم بإدارات الفتوى والبحوث العلمية وتفعيل التعاون فيما بينهم. 4-استمرار تأهيل القاضي ومتابعة رفع مستواه المعرفي، والتركيز على إحاطته بمستجدات العصر، من أحكام نوازل فقهية، وأعراف تجارية، ومبادئ قضائية، واطلاع على تجارب الآخرين، ومعرفة بالقوانين الدولية المقارنة، وغير ذلك مما له أهم الأثر على توسيع مداركه. وهذه المسائل التي تعرضت لها في هذا المقال، قد تكون هي الأهم في صناعة القاضي الشرعي، وفي حال توافرت هذه العناصر لدينا، فإنه يمكننا حينها الحكم على قضاتنا حكماً عادلاً، وعندها فقط نرى عظمة الشريعة، ونغتبط بإبداعات قضاتها. أما أن نرمي القاضي في اليم مكتوفاً ونقول له: إياك أن تبتلّ بالماء، فهذا في غاية الظلم. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.
مشاركة :