شهد عالمنا العربي «المستهلك» ثورات التقنية الهائلة وواكب ما أنتجته مصانع الدول المتقدمة، وصار العالم كله في جوال أصغر من راحة كفه، استغنى به عن التلفاز والسينما والصحيفة والمذياع والفاكس والكاميرا ودفتر الملاحظات وترمومتر الأجواء وأنظمة الملاحة والساعة والمنبه ومقياس النبض وراصد السعرات والمكتب السياحي والمول التجاري والعيادة الطبية والمكتب العقاري والاستشاري والدروس الخصوصية والمحاضرات والندوات والدورات التأهيلية والورش العملية، والصحيفة، فهو رئيس التحرير والمحرر والمدقق والناشر والطابع، ودخل بجواله عالم التجارة بكل أصنافها وتنوعها، فدخل شباب من الجنسين عالم المال والأعمال بلمسة على لوحة المفاتيح التي فتحت لهم خزائن الدنيا، ورفع الله بالإعلام الجديد أقواماً وهبط به آخرون، وكان المنطق أن يواكب هذه الثورات الكبرى في التواصل تغييرات كبرى في طرائق التفكير وأساليب الحوار والعيش مع التنوع الثقافي والمذهبي والعرقي والديني والسياسي، والذي حصل عكس ذلك تماماً، فقد ساهم الإعلام الجديد في تكبير صورة «الأمراض العربية» عند شريحة كبيرة من العامة والخاصة، فكل الأمراض المستترة المنزوية سلّط الإعلام الجديد عليها المجهر، فبعد أن كانت حبيسة البيوت والمجالس المحدودة والصداقات المعدودة تولى الإعلام الجديد نقلها وتسويقها والترويج لها، فسهل على ساقيها وشاربها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه، فانتشرت الأمراض الثقافية والأوبئة الطائفية وصار الإقصاء بين شريحة كبيرة من المثقفين في العالم العربي شعار المرحلة والتخوين العملة الرائجة، وانتكست المفاهيم العربية في الموازين عند بعض أصحاب الرأي والقلم، فالمتسلق المتوثب المتزلف المتلون عندهم هو الوطني الصادق المخلص، والغيور الشفاف الناصح الصادق المخلص المحذر المنذر هو الأجير الخائن البائع لذمته في سوق النخاسة الرخيص.كان المتوقع بعد ثورة التواصل الاجتماعي أن تكون النخب المثقفة العربية عوناً لصناع القرار والمرآة الصادقة الناصحة لهم. من الطبيعي ألا يتوقع صناع القرار من أرباب الفكر والثقافة والرأي أن يهللوا لكل قرار ويكبروا لكل إجراء، بل يتوقعون منهم تحليلاً عميقاً ونقداً هادئاً وتقييماً متزناً يبين مواطن الضعف والقوة في السياسات والقرارات بأسلوب رشيد عاقل حادب، فالأقلام الوطنية الناقدة المخلصة مرآة الأمم المتحضرة، والمديح الزائد ذو الطابع التقديسي لا تجده إلا في الأنظمة العسكرية الشمولية القمعية كنظام القذافي وصدام وبشار أو كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية، ولهذا وحين تجاوز كاتب سعودي في مديح الملك سلمان بن عبد العزيز وغالى في ثنائه وجّه الملك خطاباً إلى وزير الإعلام السعودي يبدي فيه عدم رضاه عن هذا النوع من المديح ولا الأوصاف المغالية التي جازف فيها.ومن يتأمل طبيعة تعاطي المثقفين وحملة القلم في الإعلام التقليدي والتواصل الاجتماعي مع حكومات الدول العربية يجد أن «بعضهم» يتراوح بين إفراط وتفريط، بين غلو وجفاء، بين من يضفي قدسية أول من يرفضها أغلب صناع القرار أنفسهم وإن جاملوا في تقبلها، وبين من يتلبس بروح الحزب المعارض المناكف المكايد الذي لا يرى إيجابية في أي إجراء حكومي ولا خيراً في قرار رسمي، والحق بين ذلك قوام، ومختصره الثناء على الإنجازات وانتقاد السلبيات بلغة وطنية ناصحة حادبة منزوعة من دسم الفضح والتشهير.
مشاركة :