استقبل فيكتور أوربان، رئيس حكومة هنغاريا، انتخاب دونالد ترامب، بالقول:» اللاديموقراطية الليبرالية انتهت. يا لهذا اليوم!». وبينما كانت أوروبا تحت وقع الصدمة، هلل أوربان:» أشعر أن عبئاً قد أزيح عن كاهلي». ويرى أوربان وأمثاله من حكام أوروبا ووسطها أن المقالات الشعبوية التي ينتقدها الغرب اكتسبت، بعد خروج بريطانيا وانتخاب ترامب، مشروعية قوية. وهم يرون أن المثال الأوروبي والأميركي الذي اضطلع بدور بارز في عمليات الانتقال الديموقراطية، منذ 1989، على وشك الأفول. ولكن التيارات الشعبوية، الى اليوم، لا تتعدى مرحلة التهديد في غرب أوروبا، بينما بعضها استقر في حكم دول شرق أوروبا. وهذا فرق كبير. وإلى وقت قريب، نسبت أعراض «التعب الديموقراطي» وأخطار الارتداد عن الديموقراطية الى الماضي الشيوعي والتأخر عن الركب الغربي. ومع الحمى الشعبوية والمناهضة لأوروبا في غرب أوروبا، تشهد علاقة المركز (الغربي) بالطرف (الشرقي) انقلاباً. فها هي أوروبا الوسطى تتقدم الصفوف وتضطلع بـدور «الطليعة» الشعبوية في التمثيل على أزمة الديموقراطيات الغربية. ويقصد بالشعبوية التيارات السياسية التي تقصر المشروعية على مناشدة الشعب ودعوته الى التأييد. وتعارض هذه التيارات بين الشعب وبين النخب الليبرالية التي تحجر على عبارة الشعب عن إرادته وتقيد هذه العبارة وتزيفها. وليست مناشدة الشعب ما يهدد الديموقراطية ويضعفها، بل زعم تمثيل الشعب واحتكار هذا التمثيل، أي نفي الكثرة والتعدد من الشعب وحمل تمثيله على حاكم متسلط يجسده. والسمة الثانية التي تسم التيارات الشعبوية هي الفصل بين الشعب أو الأمة وبين السكان الأجانب. فإلى مسألة التمثيل السياسي في دولة الحق والقانون أضيفت مسألة الهوية الوطنية وإقامة المهاجرين في الاتحاد الأوروبي. غداة 1989، عزي فشل عمليات الانتقال الديموقراطي في البلقان الى الحروب التي صدعت يوغوسلافيا، وإلى الارتكاس الاقتصادي وضعف المجتمعات المدنية. وبينما كانت بلدان المجال ما بعد السوفياتي، باستثناء منطقة البلطيق، تنحو الى إقامة أنظمة هجينة ومتسلطة، جمعت بلدان أوروبا الوسطى بين تثبيت ركائز الديموقراطية الليبرالية والاندماج في الاتحاد الأوروبي. وطوال 20 عاماً، شهدت هذه المنطقة سيرورة غير مسبوقة تاريخياً حملتها الى مضاهاة غرب أوروبا وملاقاتها على صعد الاقتصاد (الناتج الإجمالي المحلي للفرد)، والاجتماع (الحراك والاستهلاك وأنماط الحياة والعمر المأمول)، ونمو المؤسسات السياسية الديموقراطية والليبرالية. وكان مصدر قوة الاتحاد الأوروبي على التغيير هو اشتراط إرساء هيئات دولة الحق والقانون لقاء الانتساب الى الاتحاد. وذلك أن لحمة الاتحاد وسداه هما الاشتراك في تبني الأسس والمعايير الحقوقية. ويجمع النكوص الديموقراطي في الأعوام الأخيرة سمتين: الأولى هي إدارة الظهر لدولة الحق التي تنهض عليها الديموقراطية الليبرالية، والثانية هي تعاظم النزعة القومية ودورها في إرساء المشروعية السياسية وحلولها بين النزعة السيادية وبين الانكماش على الهوية. وهاتان السمتان، في سياق أزمة هجرة عاصفة، أظهرتا على السطح شقاقاً أوروبياً بين الشرق والغرب. وكان «فيديز»، حزب فيكتور أوربان، في هنغاريا، السباق الى جلاء المشكلة. فهو تسنم الحكم، في ربيع 2010، بعد حصوله على نصف أصوات الناخبين، ما جعله يحوز غالبية دستورية لا تقل عن ثلثي مقاعد البرلمان. ويعطل الفصل بين السلطات، ويحول دون استقلال المجلس الدستوري والنظام القضائي كله، ويعرقل استقلال الإعلام والصحافة. ووصفت كيم لاين شبيل، الباحثة في القانون، نتيجة الانتخابات بـ «فرانليستايت» (دولة فرانكشتاين) الجامعة أسوأ صفات الحوكمة معاً. ومذ ذاك يحكم حزب «فيديز» من غير معارضة فعلية: فالاشتراكيون حفنة ضئيلة من النواب، وحزب اليمين المتطرف «جوبيك» يقنع بالمزاودة. ورفع حزب «الحق والعدالة» البولندي، في انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) 2015، شعار «بودابست في وارسو (فرصوفيا)». وغداة الانتخابات، وفوز الحزب بها، اقتفى «الحق والعدالة» أثر هنغاريا وحزبها الحاكم، واتخذ الحزب الحاكم اللاليبرالي مثالاً. ولم تضعف عرى التحالف بين الحزبين بعدها. وفي أيلول (سبتمبر) 2016، التقى زعيم «الحق والعدالة»، ياروسلاف كاشينسكي، فيكتور أوربان في منتدى كرينيتسا، في بولندا، وأعلنا أملهما بـ «ثورة مضادة» (كذا) في أوروبا. وغاية الثورة المضادة المرجوة هي «تغيير الاتحاد الأوروبي نفسه، وتغيير طرائق اتخاذه قراراته»، ونقل السلطات الى البرلمانات الوطنية. وفي الذكرى الستين لثورة هنغاريا، في 1956، كرر فيكتور أوربان والرئيس البولندي، إندري دودا، التأكيد على متانة «محور» بودابست- وارسو وعمق جذوره التاريخية والمسيحية. وفي غضون الأسابيع التي تلت تسلم «الحق والعدالة» البولندي الحكم، عمدت الحكومة التي ألفها الحزب الى سن قواعد جديدة يعين بموجبها القضاة الدستوريون، وأجرت تطهيراً عريضاً في صفوف العاملين في الإذاعات وأقنية التلفزيون الرسمية، وألغت معيار الحياد في الإدارة العامة. فلم يبق فكتور أوربان الهنغاري استثناءً في وسط أوروبا، مع انضمام بولندا، وهي بلد محوري في هذه الرقعة من العالم، الى صف الأنظمة المتسلطة- ويتولى الحكم في سلوفاكيا، بعد هنغاريا وبولندا، روبرت فيكو. ويلقب فيكو، بعد خطابته العنيفة والمعادية للمهاجرين، بـ «أوربان اليساري». والحلف السياسي والحزبي الذي يقود سلوفاكيا ركناه الحزب القومي – الشعبوي اليساري، «سْمير» Smer (وجهة)، والحزب القومي السلوفاكي، اليميني، ونظير حزب الجبهة الوطنية الفرنسي (مارين لوبن). وأدى تقليص «سميْر» حدة خطابته القومية الى بروز حزب فاشي جديد على يمينه، «سلوفاكيانا»، يتزعمه ماريان كوتليبا الذي انتخب نائباً الى البرلمان في آذار (مارس) 2016. وأرسى روبرت فيكو حملته الانتخابية على خط شديد العداء للأجانب في ذروة أزمة المهاجرين، معولاً على ألا يترك فسحة سياسية يسع تياراً قومياً متطرفاً غير تياره التوظيف فيها. ولكن الوقائع خالفت توقعات فيكو. وسوغت خطابته الحادة مقالات خصومه القومية المتطرفة، وتقدم خصومه المتطرفون عليه. وغلبت على السياسة السلوفاكية أطياف قومية متصلة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، تحدى فيكو المفوضية الأوروبية، وقاضاها أمام محكمة العدل الاتحادية في مسألة استقبال حصص المهاجرين، وقال: «ليس من حق أحد إلزامنا في سلوفاكيا قبول مهاجرين». وفي تموز (يوليو) 2016، تولى فيكو رئاسة الاتحاد الأوروبي الدورية. وفي قمة براتيسلافا، في أيلول (سبتمبر)، حمل الرؤساء المجتمعين على تبني خطه الذي لخصته عبارة اقترحها فيكو:» التضامن المرن». فيجيز «التضامن» مطالبة الصناديق الأوروبية بحصة تمويل، ويخوّل «المرن» رفض سلوفاكيا المساهمة في سياسة الاستقبال التي يدعو الاتحاد الى انتهاجها. ولا تستثنى كرواتيا، وهي آخر بلد انضم الى الاتحاد، من الانعطاف القومي المتطرف. ففي انتخابات كانون الثاني (يناير) 2016 فاز حلف يقوده الحزب القومي المحافظ (الاتحاد الديموقراطي الكرواتي). وسرعان ما تولت الحكومة الجديدة «تطهير» الإعلام والهيئات الثقافية، وقطعت المساعدات عن وسائل الإعلام المستقلة ومنظمات المجتمع المدني. وبرز من الطاقم الحكومي الجديد، ورمزاً لهوية كرواتيا الإيديولوجية الجديدة، المؤرخ المراجع والمعروف بميله الى نظام كراوتيا المؤيد للنازية في الحرب العالمية الثانية، زلاتكوحسن بيغوفيتش. ورد أحد قادة «الاتحاد الديموقراطي الكرواتي» على نائب صربي شكا من «مناخ التضييق» الذي تعاني منه الأقلية الصربية، وهي تقتصر على 4 في المئة من سكان كرواتيا بعد أن كانت نسبتها منهم 12 في المئة، بالقول إن في مستطاع الصربيين الهجرة الى حيث يشعرون بالأمان إذا شاؤوا. والحزب الحاكم تربطه بالكنيسة الكاثوليكية أواصر قوية من ثمراتها دمج كلية الفلسفة في كلية اللاهوت، وهذا إيذان ربما بإلحاق التعليم بالجهاز الإكليركي. وقد لا يضمن اعتدال رئيس الحكومة بلينكوفيتش دوام نهج سياسي وسطي. ويفسر النكوص الديموقراطي بعوامل لا ينفي بعضها بعضاً. والعامل الأول هو انقسام المجتمع بعد 1989 شطرين: شطراً رابحاً وآخر خاسراً. فعوائد النمو الاقتصادي على المدن الكبيرة وحملة الشهادات والشباب، والكتل الثلاث تميل الى التيار الليبرالي، أوفر من عوائده على ناخبي الأرياف، وهم أدنى تعليماً وأكبر سناً من الكتلة الكبيرة الأخرى. وهذا مصدر القول بانقسام بولندا (او هنغاريا...) الى «شعبين»: شعب العامة وشعب النخب، وتحريك انقسامات قديمة. وفي هنغاريا، يدور الصراع بين «أهل المدن» من ليبراليين واشتراكيين – ديموقراطيين، وبين الشعبويين (القوميين)، وهو يرقى إلى أواخر القرن التاسع عشر. وفي بولندا، ارتسمت في الأعوام العشرة الأخيرة خريطة انتخابية تكاد تكون مطابقة للصراعات التاريخية التي تعود جذورها الى انشقاقات أواخر القرن الثامن عشر: فيغلب على مناطق غرب بولندا الاقتراع لليبراليين (الميثاق المدني)، ويقترع ناخبو الشرق للمحافظين (الحق والعدالة). وتترجح هذه الأنظمة بين قطب ديموقراطي ليبرالي، انفكت منه، وبين قطب أوتوقراطي، على مثال أردوغان وبوتين، لم تبلغه بعد. فهي أنظمة هجينة يحرف تسلطها وجمع السلطات في يد حزب واحد المنافسة عن سويتها، ويميل ميزانها. فهي «دول غير ليبرالية»، على قول أوربان، ويحمل فيها كل كابح للسلطة أو قيد يقيدها على عدوان على سيادة الشعب. ويصف زديسلاو كراسنوديبسكي، أبرز إيديولوجيي الحزب البولندي الحاكم، الديموقراطية الليبرالية بأنها الحكم الذي تصبو إليه نخبة ما بعد 1989 وانهيار النظام الشيوعي، وأدى فعلاً الى تذرير المجتمع أفراداً يفتقرون الى لحمة قومية واجتماعية قوية تحول دون سيطرة المصالح الأجنبية على الاقتصاد البولندي (على سبيل المثل). ويتذرع أوربان الى هجاء الديموقراطية الليبرالية بنازع بعض النخب البولندية في العقد العاشر من القرن الماضي الى بناء «ديموقراطية السوق»، وإلى اشتراط إنجاز الديموقراطية السياسية مقدمة تسبق النمو الاقتصادي. وذلك على خلاف صنيع سنغافورة والصين والهند وتركيا. ولكن عوامل أخرى، مثل انحلال الفارق بين اليسار واليمين، ونفاد المثال الليبرالي، وانغلاق مجتمعات وسط أوروبا على نفسها، وضعف الاتحاد الأوروبي في المركز- ساهمت مساهمة فاعلة في أزمة الديموقراطية الليبرالية، شرقاً ووسطاً وغرباً. *مدير بحوث العلوم السياسية ومستشار الرئيس التشيخي فاتسلاف هافيل سابقاً,عن "اسبري" الفرنسية 6/2017 اعداد منال نحاس.
مشاركة :