طغت جهود البحث عن «ظل الحائط» وهيّمنت محاولات سد الخانات المجتمعية وشراء راحة البال بوجود ذكر من دون عوارض جانبية تذكر. ويبدو أن ملامح نسوية جديدة جارٍ تشكيلها من دون إشهار، وسمات ذكورية حديثة جارٍ التسليم بها من دون إحراج. الحرج الذي استبد بالنادل لم يكل له محل من الإعراب، إذ إن بطلي المشهد لم يخطر ببالهما أن ما جرى من تكفّل «المدام» بسداد فاتورة العشاء بينما «الأستاذ» ينفث دخان سيجارته في الهواء سيُدهش أحداً. فالمدام الزوجة والأم هي العائل الوحيد للأسرة. منصبها المرموق في المصرف الكبير يقابله منصب كبير للزوج أيضاً ولكنه «سابق»، بعد ما أغلقت شركة السمسرة أبوابها في سنوات ما بعد رياح التغيير الثورية. صحيح أن مدخرات الأستاذ تدرّ دخلاً شهرياً، إلا أنه أقرب ما يكون إلى مصروف شخصي له ينفقه بين سجائر وفواتير مقاهٍ فاخرة وقليل جداً من حاجات الأولاد الهامشية. أما «المدام» فإن الأمر لا يزعجها، طالما أن الأستاذ لم تظهر عليه بوادر غيرة حمقاء أو إمارات نقص أو ما شابه. تقول: «ما يهم هو أننا نحافظ قدر الإمكان على مستوى المعيشة الذي اعتدنا عليه. أما مسألة رب البيت الذي ينفق ويسيطر ويهيمن فهي غير واردة، والحمد لله إنها لم تخلّف عوارض جانبية تدمّر حياتنا». تدمير حياة أسر عدة يحدث من دون أتربة هدم أو مخلّفات تهشيم. أسرة ظروفها المعيشية شبيهة بالمدام التي تسدد الفواتير والأستاذ الذي يدخّن سيجارته انقلبت حياتها رأساً على عقب بعد ما فقد الزوج وظيفته قبل ثلاثة أعوام في حين احتفظت الزوجة بعملها. فقد اعتبرها مسؤولة مسؤولية غير مباشرة عن شعوره بقلة الحيلة. يقلق من نومه صباحاً ليجدها تستعد للنزول إلى العمل. يتناول قهوته بعد الظهر فيُفاجأ بها عائدة بعد يوم عمل طويل محمّلة بالمشتريات. يختفي من البيت لبضع ساعات حفاظاً على أعصابه ويعود ليجدها وقد انتهت من إعداد الطعام وجلست تنجز أعمالاً معلّقة لليوم التالي. يشعر بأنه بلا فائدة فيفقد أعصابه لأتفه الأسباب. تفهم الزوجة ما يجري، وتتفهمه أحياناً وتتقبّله مضطرة دائماً. تقول: «نحن متزوجان منذ أكثر من 25 عاماً وأولادنا أوشكوا على التخرّج من الجامعات، والحكاية لا تستحق انفصالاً وطلاقاً ووجع الدماغ هذا. المهم أن يبدو البيت مطابقاً لمواصفات الأسرة لأطول وقت ممكن». الوقت الذي كانت الرجولة تعرف بإنها القوة والبأس والحماية والظهر والسند والاحتواء والحضن وعمود البيت تغيّر وتبدّل. ومعه تبدّلت نعوت الرجولة ومفاهيمها حيث أصبحت أكثر ليونة ونعومة وسهولة. وقد شهد هذا التحوّل الحادث بفعل قوة اكتسبتها المرأة عبر التعليم واختراق مجالات العمل وإثبات الذات وتبدّل المفاهيم حول أدوار الجنسين مقاومة من قبل الرجال قبل سنوات. كانوا يستشعرون تغيّر المفاهيم. وكانوا يعايشون قدوم النساء الناجحات القادرات. وكانوا يعاصرون انقلاب تقسيم الأدوار الكلاسيكي، لكنهم كانوا يقاومون الزعزعة من على عرش هيمنة الذكور. الهيمنة الذكورية التي قد تخدع المتابع للمشهد المصري من الظاهر تحاول البقاء على قيد الحياة. صحيح أن نسب التحرّش بالغة الارتفاع، ونسب الزواج على الزوجة الأولى مرتفعة (على رغم عدم وجود إحصاءات)، وتحوّل الخلع من بعبع الرجال وقاهرهم إلى النوع الأكثر رواجاً من أنواع الطلاق. وتشير دراسة رسمية عنوانها «تطوّر ظاهرة الطلاق خلال السنوات الـ20 الأخيرة» أن الخلع حقق أعلى نسب الطلاق في المحاكم، وبلغ 65.4 في المئة من إجمالي شهادات الطلاق في العقد الأخير، في مقابل 1.9 في المئة في العقد الذي سبقه. وبعد ما كان الرجال المخلوعون يعتبرون خلعهم إخلالاً برجولتهم وداعياً للانتقام وتلقين الزوجة دروساً قاسية، أصبح أمراً عادياً ووسيلة طلاق رخيصة توفّر عليهم النفقة ومؤخّر الصداق وغيرهما من بنود تستنزف جيوبهم وقد تؤثر سلباً في قرار الزواج التالي. الزواج التالي الذي يشغل بال النساء عادة مقارنة بالرجال بعد فشل الزيجة الأولى تدفع زوجات كثيرات إلى تحمّل سخافات الزواج لسدّ الخانات والفراغات المجتمعية التي تنشأ لعدم وجود رجل. المثل الشعبي القائل إن «ظل راجل ولا ظل حائط» لا يزال ساري المفعول. وعلى رغم إنه يبدو مثلاً شعبياً تعتنقه فئات بعينها تعتبر وجود رجل في البيت حتمياً منعاً لكلام الناس وتساؤلاتهم وتدخّلاتهم، إلا أن كثيرات من فئات اجتماعية واقتصادية مختلفة يعتنقن هذا المبدأ، طالما وجوده «حميداً» لا ضرر منه. تقول سمية. س (40 سنة) أنها فكّرت في طلب الطلاق غير مرة، لكنها في غنى عن التساؤلات حول أسباب ذلك، وخطط المستقبل، ومصير الأبناء، والترتيبات المالية: «وزنت الأمور بحكمة. ففي كفة هناك الاستمرار في الزواج حيث كل منا في عالمه لكن بيتاً واحداً يجمعنا، أو الطلاق مع التخطيط لمستقبل جديد وربما يكون أفضل، ولكن ربما أيضاً يكون أسوأ إضافة إلى تطفّلات الجيران وتدخّلات الأهل والأقارب ومشاعر الأولاد الذين يواجهون دنياهم فجأة باعتبارهم أبناء زيجة فاشلة. هنا يكون ظل الرجل أهون من غيابه كلياً». غياب الرجال وتضاؤل مفهوم الرجولة في شكلها الكلاسيكي القـــديم فرضته النساء وأيدّه واقع الحال ولـــم يعد يزعج الرجال كثيراً. فهو أسهل ولو انتقص من الأدوار النمطية وأبسط ولو نال من الهيمنة الذكورية. إذن لم تعد نساء يؤمنّ فقط بأن «ظل رجل ولا ظل حائط»، لكن هناك من ترى في وجود الرجل في البيت «رحمة ولو كان فحمة».
مشاركة :