أمل سرور من هنا تبدأ الحكاية. من الشارقة التي ما إن تطأ قدماك أرضها إلا وتشعر بأنك دخلت عبر بوابة التاريخ لتقف أمامها وجهاً لوجه، لا تملك سوى أن تفتح صدرك لتلك الرائحة المنبعثة من خلف جدرانها العتيقة، وتتأمل وتصمت، وتنصت جيداً لحكايات أصالة ماضي الأجداد الذين نجحوا بجدارة في أن يكونوا النواة الأولى لإمارة العز والخير.شارقة التاريخ والحضارة التي تطل عليك من خلف بوابات تلك المنطقة التاريخية التي ينبض قلبها منذ عقود حاملاً على عاتقيه أصوات تجار وعمال وحركة تجارية نشطة، وأسواق تعبق بنكهة الماضي الأثير ومساكن وحصون ومبان امتازت بطابع معماري تراثي أصيل.إنها تلك الوجهة المتفردة التي تختزن عبق التاريخ وذكريات الماضي، هي أيقونة إمارة الأحلام «قلب الشارقة».وكأنني امتطيت آلة الزمن لأعود بها إلى الوراء بعيداً، حالة من الصمت والتأمل انتابتني أمام الأبواب القديمة الضخمة التي استقبلتني عندما دخلت منطقة قلب الشارقة، أقف أمامها فأسمع صوت الإدريسي، عالم الجغرافيا العربي مؤكداً في القرن الحادي عشر، على وجود ميناء في تلك المنطقة التي أقف على أرضها بقدمي، وهي نفسها التي لعبت دوراً هاماً وبارزاً في تطوير التجارة.أفقت من تأملي على صوت الوالد الذي فضل أن يذكر لقب عائلته قائلاً: «أنتمي إلى عائلة الشويهي، ونحن من الأوائل الذين سكنوا تلك المنطقة القديمة»، وقبل أن أسأله بادرني بالحديث مستطرداً: «تميزت الشارقة تاريخياً بوجود عنصرين أسهما في وجود المستوطنات البشرية داخل الخليج العربي، الأول أنها تقع في مدخل محمي من البحر، يُدعى محلياً الخور، وثانياً وجود المياه العذبة في أعماق ضئيلة نسبياً». وحسب معلوماتي التي ترجع إلى عام 1756 كانت توجد ثلاثة مواقع على الساحل بين القطيف في «المملكة العربية السعودية»، وصير «رأس الخيمة»، وتحتوي هذه الأماكن على نسبة ضئيلة من السكان، ومنها كان يتم نقل بلح البصرة والأرز إلى عرب الصحراء من قبل غواصي اللؤلؤ، وحتى زمن التجارة القديمة مع الشرق، وقدوم عائلة القواسم بأسطولها البحري القوي للإقامة في المنطقة، وهو ما أوجد نشاطاً تجارياً كبيراً، ساعد السكان على إقامة العديد من البيوت السكنية والأسواق والمساجد، التي ظلت شاهدة على نمو المدينة وتطورها عبر الزمن». قاطعت الوالد قائلة: رغم مرور تلك الحقب إلا أن منطقة قلب الشارقة ما زالت تنبض بالحياة، وتخضع للترميم وإعادة الإحياء، ابتسم الوالد قائلاً: «يا بنيتي. إنها توجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ذلك الرجل الذي يعتز بإماراته، ويحفظ ويحتفظ ويحافظ على إرثنا التاريخي، أدعو من الله سبحانه وتعالى أن يطيل عمر سموه، ويعطيني العافية حتى أرى منطقة قلب الشارقة كما يراها ويريدها سموه».استسلمت تماماً لصوت مرافقتي فاطمة الشويهي رئيس قسم التثقيف بهيئة الشارقة للاستثمار والتطوير «شروق»، والتي لم تفارقني طوال الجولة بين الأروقة والشوارع، خاصة وأنها بنت المنطقة كما يقولون، وتحمل في جعبتها الكثير من الأسرار وحكايات الجدات، بدأت فاطمة حديثها عن المشروع الذي تقوم على تنفيذه مؤسسة الشروق، قائلة: «هو الأول من نوعه الذي يهدف إلى ترميم المناطق التراثية في الشارقة، والأكبر والأبرز في المنطقة. ومن المقرر إنجازه في عام 2025، ويسعى إلى إبراز الازدهار الذي عاشته الإمارة منذ أكثر من نصف قرن، وإعادة ترميم وتجديد المناطق التراثية لتشكيل وجهة سياحية وتجارية متفردة ذات لمسة فنية معاصرة تتناغم مع طابع عقد الخمسينات، خاصة بعد أن تم إدراج منطقة قلب الشارقة، ضمن القائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي التي تشرف عليها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو»، بما يعكس ثراء التراث الأثري والتاريخي في دولة الإمارات».إذن لنبدأ جولتنا - والكلام على لسان فاطمة الشويهي - وقبل أن نتحرك علينا أن نقول إن المشروع الذي تقوم على تنفيذه مؤسسة شروق للاستثمار والتطوير ينقسم إلى خمس مراحل، يتم العمل حالياً على المرحلة الثانية، ويضم عدداً من المعالم التاريخية والتراثية البارزة، وكماً كبيراً من الأسواق، مثل سوق الشناصية الذي يعد من أقدم وأكثر الأسواق حيوية في المنطقة، وسوق العرصة، والسوق القديم، وسوق صقر. ومتاحف من بينها متحف الحصن، الذي يعد أهم بناء في الشارقة منذ بداية القرن ال 19 وحتى منتصف القرن ال 20، وتم بناء الحصن عام 1823 ليُستخدم آنذاك مقراً للحكم وسكناً لعائلة القواسم الحاكمة. وتضم صالات العرض في المتحف مقتنيات واسعة من الصور والقطع والقصص التي توفر لنا فرصة عيش تاريخ الشارقة وأهلها، و«متحف بيت النابودة»، و«متحف الشارقة للتراث» الذي يمكن من خلاله استكشاف أسلوب الحياة في الشارقة القديمة، بالإضافة إلى «متحف مدرسة الإصلاح» التي تأسست عام 1935 لتكون أول مدرسة نظامية في الشارقة، وتستقبل في فصولها طلاباً من جميع أنحاء المنطقة، أمّا أكبر متاحف قلب الشارقة وأشهرها فهو «متحف الشارقة للحضارة الإسلامية» المطل على خور الشارقة، الذي يحوي بين جنباته أكثر من 5000 قطعة فريدة جمعت من كل أرجاء العالم الإسلامي.لأن منطقة قلب الشارقة تعد مركزاً تجارياً حياً لمئات السنين حيث تواجد فيها العديد من الأسواق التي اجتذبت التجار وقوافلهم من مختلف البقاع، كنت على يقين بأن المتعة لن تكتمل من دون زيارة هذه الملتقيات الشعبية التراثية التي لا تزال تمزج روائح العطور والبخور بعبق التاريخ، استوقفتني مرافقتي في قلب «سوق العرصة» الذي تحدثت عنه قائلة: «يعتبر من أهم الأسواق القديمة حيث كان فيما مضى قبل أكثر من نصف قرن - نقطة التقاء رحلات تجار البدو وجمالهم المحملة بالبضائع، ويضم الكثير من المتاجر التي تعرض المشغولات اليدوية والمقتنيات ذات القيمة التاريخية والتحف الخشبية والصناديق العربية المطعمة باللؤلؤ وأباريق القهوة النحاسية والمصوغات اليدوية والمجوهرات التراثية والعطور والبخور والملابس المصنوعة يدوياً والسلال المصنوعة من سعف النخيل والأعشاب الطبية والسجاد والهدايا التذكارية».تأخذنا أقدامنا فنجد أنفسنا وقد دخلنا إلى «سوق صقر» الذي يتميز بأجواء تتناغم مع روح التراث الأصيل حيث كان مقراً لتجارة الذهب والملابس، ويقدم مجموعة واسعة من المنتجات بينها التوابل والأعشاب والحناء والملابس والمنسوجات والزيوت والعطور والبخور والسلال المصنوعة من سعف النخيل، ومستحضرات التجميل. وها نحن ننتقل إلى عالم ينبض بالذكريات لتداعبنا أجواء الماضي الآسرة، وهي حالة أظن أنها تنتاب كل من يفكر بزيارة «السوق القديم» حيث يتوسط مجموعة من المباني الحديثة ليشكل وجهة متفردة تأخذك بخطوة واحدة على قدميك إلى تلك الأيام الجميلة التي ما زال عبقها يداعب الذاكرة.لم يفت مؤسسة «شروق» للاستثمار والتطوير فكرة يمكن أن تراود رواد تلك المنطقة بكل ما تحويه، حيث لا يكفي يوم واحد لتلك الجولة، لذا قامت ببناء مكان إقامة بين أحضان «قلب الشارقة»، لتقدم أفضل وأول تجربة إقامة تراثية في الإمارة، وها هو فندق «البيت» الإماراتي الأصيل بكل معنى الكلمة، إذ يعتبر منتجعاً فاخراً من فئة الخمس نجوم يجمع بين العناصر التقليدية واللمسات العصرية الحديثة.بلغت تكلفة بنائه نحو 100 مليون درهم ليكون محافظاً على معظم البيوت القديمة في المنطقة، والتي تم اختيارها حصرياً لبناء الفندق وتكوينه وستحمل هذه المنازل أسماء الملاك الأصليين والغرف ذاتها لتسليط الضوء على البيئة ونمط حياة الإماراتيين قديماً.ويتيح ذلك للنزلاء تجربة أجواء الماضي عبر عناصر منسجمة مع الثقافة والمجتمع والتاريخ والحضارة ومن المقرر إنجاز الفندق وافتتاحه في العام المقبل 2018.
مشاركة :