أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور ماهر المعيقلي، المسلمين بتقوى الله؛ فهي العدة والزاد والمدخر ليوم المعاد. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: حجاج بيت الله الحرام هنيئاً ما خصكم الله به؛ حيث وردتم بيته المعظم، وقصدتم ركن الإسلام الأعظم، آمّين البيت العتيق؛ مُلَبّين من كل فج عميق؛ فقصد هذه البقاع المباركة بالحج والعمرة، يرفع الدرجات ويغفر الذنوب السيئات؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". وأضاف: ها هي مكة وجلالها، والكعبة وجمالها، وهنا الحجر والحجر الأسود وزمزم، ومقام إبراهيم والصفا والمروة، ومنى والمشعر الحرام وعرفة؛ فكم حج هذا البيت من أنبياء ومرسلين، وكم تنقلوا بين هذه المشاعر مُهِلّين وملبّين؛ فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقطع هذه الفيافي الفساح، وكأنما جبالها ووهادها وآكامها وأوديتها تروي له خبرها، وتحدثه بمن مَرّ بها، وفي حجة الوداع والناس في صعيد عرفة، يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام)؛ فيذكّر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بركب الأنبياء الكرام؛ لتقتفي الأمة أثرهم وتسير على نهجهم، وقد لفت القرآن الكريم لهذا بقوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}؛ اتباعاً لأبي الأنبياء وإمام الحنفاء. وأضاف: في يوم الجمعة من حجة الوداع، وعلى أرض عرفات الطاهرة، نزل جبريل عليه السلام، على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشهداً بقول الحق جل جلاله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للناس في يوم النحر: (لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه). وأردف: هذه شعيرة عظيمة بعِظَم هذا البيت العتيق، تَتَابع في قافلتها أنبياء الله ورسله؛ فسار في طريقها إبراهيم وصالح وهود، وموسى ويونس ومحمد، وغيرهم من أنبياء الله تعالى وأصفيائه؛ فدين الأنبياء واحد، وكلهم جاء بعبادة رب واحد. وقال "المعيقلي": توحيد الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، أعظم مقاصد الحج وأجلها؛ فما رُفِع هذا البيت العتيق إلا بالتوحيد، ولأجل التوحيد؛ ذلك أن التوحيد هو أساس الدين، وبالتوحيد تُغفر الخطايا والسيئات، وكما أمر الله تعالى بإخلاص العبادة له وحده؛ فإنه أَمَر بالإحسان إلى عباده، وتعظيم حرماتهم، والقيام بحقوقهم، والرحمة والرفق بهم؛ ففي حجة الوداع وجّه النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق بقوله: (يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر؛ فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله فهلل وكبر)، وهو توجيه نبوي كريم لعموم المؤمنين بأن يَتَحَلّوْا بالرفق والرحمة واللين والرأفة؛ خاصة في مثل هذه المواسم التي يكثر فيها الناس، ويحصل فيها الزحام؛ فلا يكن أحدهم سبباً في إلحاق الأذى بإخوانه المسلمين. وأضاف: تحصيل الأجر في النسك لا يبلغ الكمال إلا بالرفق واللين؛ لأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف؛ ففي صحيح مسلم: عن عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه)، قال النووي رحمه الله: ومعنى يعطي على الرفق؛ أي: يُثيب عليه ما لا يثيب على غيره. وأردف: النبي صلى الله عليه وسلم تَمَثّل أعظم معاني التيسير والرحمة، في مقاله وحاله؛ ففي حجة الوداع من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر؛ فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا، وجُمع كلها موقف)، وفي يوم العيد الأكبر، ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قدّم ولا أخر، إلا قال: (افعل ولا حرج)؛ فجاءه رجل فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: (اذبح ولا حرج)؛ فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: (ارم ولا حرج)؛ فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدّم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج). ولفت إمام وخطيب المسجد الحرام إلى صور رفق وجميل خُلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما وصل إلى المروة في حجة الوداع، وقال: تنادى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ فجاءوا من كل حدب وصوب؛ حتى خرج العواتق من البيوت، كلهم يريدون النظر إلى وجهه المبارك؛ فلما ازدحموا عليه، وكان صلى الله عليه وسلم كريماً سهلاً لا يضرب الناس بين يديه، أمَر براحلته فركبها، حتى يروه كلهم، شفقة عليهم، ورأفة ورحمة بهم؛ فأتم سعيه راكباً عليه الصلاة والسلام. وأضاف: تحقيق الأخوة الدينية والرابطة الإيمانية؛ يتجلى في الحج بأبهى صوره، وأجمل حلله؛ فالحجيج يطوفون ببيت الله، ويجتمعون على صعيد عرفة، ويبيتون بمزدلفة؛ فمعبودهم واحد، وأعمالهم واحدة، ولباسهم واحد، وقبلتهم واحدة. وأردف: في حجة الوداع، لما انقضت ساعات نهار يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ذكر وخشوع ولهج بالدعاء وخضوع؛ حتى إذا تناهى النهار دعا بأسامة بن زيد -رضي الله عنه وأرضاه- ليكون ردفه على الناقة؛ فتنادى الناس يدعون أسامة، وظن بعض حدثاء العهد بالإسلام أن أسامة رجل من وجهاء العرب؛ فما فجأهم إلا وشاب أسود أفطس أجعد يتوثب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون له من بين أهل الموقف كلهم شرف الارتداف مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاختيار يعلن تحطيم الفوارق بين البشر، ويدفن تحت مواطئ راحلته نعرات الجاهلية؛ ليعلن بطريقة عملية أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى. وتابع: من مقاصد الحج الكبرى إقامة ذكر الله عز وجل؛ بل كل طاعة إنما شرعت لإقامة ذكر الله؛ فأعظم الناس أجراً أكثرهم فيها لله ذكراً؛ فمنذ أن يدخل الحاج في النسك؛ فهو في ذكر لله تعالى، إلى أن يطوف طواف الوداع؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعِل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله). وقال "المعيقلي": الحج أيام معدودات، يُبدأ فيها بذكر الله، وتُختتم بذكر الله؛ فلا مجال فيها لغير ذلك من الشعارات الطائفية، والتحزبات السياسية؛ إنما هو إخلاص وتوحيد، وإعلاء لذكر العزيز الحميد. وشدد على أن من أعظم مقاصد الشريعة اليُسر والتيسير على الخلق؛ خاصة فيما يتعلق بعبادتهم، وهذا من حكم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبناء على هذا فإن تيسير الحج على المسلمين وخدمة ضيوف رب العالمين، يُعَد من أعظم مقاصد الشريعة؛ حيث شرّف الله تعالى به بلاد الحرمين المملكة العربية السعودية، باستقبال ضيوفه وعمار بيته؛ فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل راحة حجاج بيت الله الحرام، وزائري مسجد رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بني عمومته حين رآهم يعملون على سقي الحجاج من بئر زمزم؛ فقال: (اعملوا فإنكم على عمل صالح، ولولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه)؛ يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه صلى الله عليه وسلم. وقال: إن رعاية الحجاج والمعتمرين والزائرين، والقيام على أمنهم، وحماية مصالحهم، ورعاية شؤونهم، وتيسير سبل الخير لهم؛ خاصة في هذه الأيام المباركة؛ عمل صالح اجتمع فيه فضل الزمان والمكان، وإذا كان الدال على الخير كفاعله؛ فكيف بالمعين عليه والمسهل لأسبابه. وأضاف: شكر الله لولاة أمر هذه البلاد ولكل العاملين في خدمة حجاج بيت الله الحرام ولرجال أمننا وللمرابطين على ثغور بلادنا؛ لكم منا خالص الدعاء أن يبارك الله في جهودكم، ويحفظكم من بين أيديكم ومن خلفكم، ونرجو الله تعالى أن تشملكم بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)؛ فطوبى لكل عين سهرت لأجل راحة ضيوف الرحمن، وطوبى لكل عين باتت تحرس الثغور لحفظ الأمن ورد العدوان، وهنيئاً لكم هذه الخيرات والبركات، ومبارك عليكم هذه الفضائل والحسنات.
مشاركة :