القاهرة: «الخليج» كان أوسكار وايلد متحدثاً بارعاً، صاحب نكتة ذكية، وكان يشيع البهجة والمرح في نفوس المحيطين به، بتلقائية ليس لها في تاريخ الأدب الإنجليزي نظير، وفي كل مجلس يحضره كان يحتكر الحديث، دون أن يفرض نفسه على المحيطين به، وكان يستعين بقدراته كممثل في الاستيلاء على مشاعر الناس، تساعده في ذلك ذاكرته الرهيبة وصوته الناعم، وكان يتناول بجدية تامة كل ما تعارف الناس على تفاهته، ومكنته هذه الطريقة من الهجوم على الكثير من التقاليد والمواصفات الاجتماعية والأكليشيهات الفكرية السائدة والشائعة، فأضاف بذلك أبعاداً جديدة إلى الحقيقة كانت متوارية عن الأنظار.في روايته «صورة دوريان جراي»، وصف للأسلوب الذي كان وايلد يتبعه في معالجة الأفكار، يقول وايلد عن اللورد «ووتون»: كان يلعب بالفكرة ويتشبث بها في عناد يشبه عناد الأطفال، ثم يقذفها في الهواء، ليتلقفها ويحولها إلى شيء جديد، ويسمح لها بالهروب منه ليمسك بتلابيبها من جديد، ثم يجعلها تشع بالخيال، ويلبسها أجنحة المفارقة، كان لامعاً مذهلاً يعبث بغير شعور منه بالمسؤولية، كان يفتن مستمعيه بالرغم منهم، فيتعبون قيثارته ضاحكين.الضحك عند أوسكار وايلد نهم إلى الحياة وعبث صبياني وفلسفة في وقت واحد، استمع إليه وهو يقول: إن الإنسانية تنظر إلى نفسها بجدية أكثر مما ينبغي، وهذه الجدية هي الخطيئة الأولى التي تردى فيها العالم، فلو أن رجل الكهف قد تعلم كيف يضحك لتغير مجرى التاريخ، وقوله: «الجدية هي الملجأ الوحيد الذي يلوذ به ذوو التفكير الضحل».وفي محاكمة وايلد كان الاستجواب الموجه إلى وايلد مستنداً إلى أنه تناول في مقدمة «صورة دوريان جراي» أهمية الفصل بين الفن والأخلاق، فأكد وايلد أنه ليست هناك أعمال أدبية خيرة جيدة وأخرى شريرة رديئة، ثم أضاف أنه يضع نصب عينيه دائما أن يبدع أعمالا فنية تتحلى بالجمال أو بالدعابة الذكية، ورفض وايلد أن يسلم بوجود عمل فني منحل.وفي محنته هذه طلب أوسكار وايلد من صديقه فرانك هاريس أن يدلي بشهادته في المحكمة بوصفه أديباً، وأن يقول إن رواية «صورة دوريان جراي» عمل أخلاقي، لكن هاريس لم يستجب لهذا الطلب، لأن وقت المناقشات الأدبية في رأيه قد فات، إذ بدأت المحكمة تنتقل من الأدب إلى البحث عن الأدلة والبراهين، وحكمت المحكمة على «وايلد» بالحبس مع الأشغال الشاقة لمدة سنتين، وبعد خروجه من السجن تنكر تحت اسم مجهول هو «سباستيان ملموث» لكن المشكلة الأعمق أن الناس شرعوا ينفرون من فكرة الفن للفن ويرتابون في النكتة الذكية وينبذون الشعر، وخرجت بعض المجلات الأدبية تعلن أن المحاكمة في حد ذاتها دليل على أن الفن لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الأخلاق.رواية «صورة دوريان جراي»، التي ألحقت الضرر بمؤلفها أوسكار وايلد، مستمدة من وقائع حقيقية، ففي عام 1884 توجه وايلد إلى مرسم صديقه «بازيل وارد»، فرآه يرسم صورة لشاب جميل، ولما فرغ من رسمها وانصرف الشاب، التفت إليه وايلد وأبدى أسفه أن يختفي مثل هذا الشاب، عندما يتقدم به العمر، فوافقه الرسام على رأيه، وتمنى لو احتفظ الشاب بنضارته، في حين تصيب الصورة الشيخوخة، ولهذا نرى وايلد يحتفظ باسم الرسام كاملاً في الرواية، اعترافاً منه بفضله.وبالرغم من أن «صورة دوريان جراي» تتسم بالواقعية الشديدة، من حيث إن شخصية اللورد هنري ووتون تجسيد لحياة مؤلفها، فإنه لا يخفى على أحد مدى إغراقها في الخيال والبعد عن الواقع، وقد اعترف وايلد قائلاً: «إن ضباباً من الألفاظ يفصلني دائماً عن الحياة، فأنا أقذف بما هو محتمل الوقوع خارج النافذة، من أجل عبارة واحدة، وتدفعني النكتة الذكية إلى هجران الحقيقة»، فضلاً عن أن وايلد ذكر لإحدى صديقاته: «إنني لا أستطيع معالجة الحقيقة أبداً فلو جاءت الحقيقة إلى حجرتي لقذفت بها من النافذة».ولد أوسكار وايلد الشاعر والمسرحي والروائي الأيرلندي في دبلن في 16 أكتوبر/تشرين الأول 1854، وبعد أن كان المال ينساب بين يديه من غير حساب، عاش آخر أيامه في عوز قاسٍ، طريداً منبوذاً مغترباً، في باريس، في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1900، وفي شبابه كان يريد التحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، لكن أبويه اعترضا على هذا التحول، وبعد تخرجه في أكسفورد سافر وايلد إلى أمريكا للمرة الأولى عام 1882 حيث حاضر فيها عن الفن، ثم سافر في العام التالي إلى باريس والتقى طائفة كبيرة من الأدباء والفنانين، وهناك عبر عن إعجابه الشديد ببودلير وروايات بلزاك الذي تشبه به في ملبسه ومسلكه.
مشاركة :