لا يزال الحرف العربي سفيراً للحضارة الإسلامية التي كونته، محتفظاً بهالة القداسة التي تتمثل في الملكات الروحية للغة العربية، لغة القرآن الكريم، وأنواع الخطوط التي تعكس تطور الفنون الإسلامية، إذ انتشر مع الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً منذ أكثر من 14 قرناً من الزمان. ومع انطلاق الدورة الثالثة من ملتقي القاهرة الدولي لفنون الخط العربي، الخميس الماضي، المنعقدة في الفترة من 10 إلى 24 أغسطس (آب)، بقصر الفنون في دار الأوبرا المصرية، يبدو جلياً صمود الخط العربي كفن له جمالياته وخصوصيته أمام تقلبات الزمن.وما بين التيار الأصيل للخط العربي، والأساليب والاتجاهات الخطية الحديثة، تتبارى اللوحات في جذب المتلقي، فقد استطاع 120 فناناً عربياً وأجنبياً تقديم المتعة البصرية من خلال استلهام القيم الجمالية لفن الخط العربي. وظهرت قدرة الفنانين عبر نحو 300 لوحة على ابتكار نماذج فنية جديدة للخط العربي، مع استخدام حروفه بمعالجات حديثة تتناسب مع العصر، وظهر جلياً التنافس بين اللوحات التي خلقت علاقات لونية حميمة بين الحروف العربية وتكويناتها والأشكال الجمالية الهندسية والنباتية والزخارف، وما بين الملمس والظل والخط والمساحة واللون كعناصر تشكيلية، وما بين القيم التصميمية كالموازين والنسب والإيقاع والوحدة والتنوع المستخدمة فيها.تشارك في الملتقى 21 دولة عربية وأجنبية، منها: السعودية والكويت والعراق وسوريا وتونس والمغرب والجزائر ولبنان والأردن وفلسطين وماليزيا وبنغلاديش وكازاخستان وسنغافورة وتايلاند والصين ونيجيريا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب مصر. ومن بين الفنانين العالميين المشاركين: أحمد هشام الدين (ماليزيا)، وأحمد العمري (العراق)، وأنس تركماني (سوريا)، وأنطونيلا ليوني (إيطاليا)، وتيريز يارز (لبنان)، وخليل الكوفحي (الأردن)، وسهيلة زكرى (الجزائر)، ومحمد صالح (سنغافورة)، وماهاي دونغ (الصين).وتحمل هذه الدورة اسم محمد عبد القادر (1917 - 1997)، الملقب بـ«شيخ الخطاطين»، الذي سيُحتفى بمسيرته، ويُكرم طوال أيام الملتقى. ويكرم الملتقي هذا العام الفنان المصري العالمي أحمد مصطفي، والفنان فكري سليمان، والفنان الدكتور مصطفي عبد الرحيم، والفنان منير الشعراني (سوريا)، والفنان فريد عبد الرحيم العلي (الكويت). ومن ضيوف الشرف الفنان عامر بن الهادي بن جدو (تونس)، والفنان حميد الخربوشي (المغرب)، والفنانة غادة الحسن (السعودية). وضيوف الشرف من الباحثين الدكتورة رشيدة بنت محمد بن سالم الديماسي (تونس)، وأحمد بن طاهر الخضري (السعودية). وسيقام حفل إعلان جوائز الملتقى، وتكريم المشاركين يوم الاثنين المقبل، في تمام الساعة الثامنة مساء، على المسرح الصغير بدار الأوبرا.وفي افتتاح الملتقى، قال وزير الثقافة المصري حلمي النمنم: «يأتي نجاح هذا الملتقى السنوي للتأكيد على هويتنا العربية والإسلامية، وقدرة الخط العربي على التجدّد، كونه فناً راسخاً، وكأحد أهم مكونات هويتنا العربية والإسلامية الأصيلة القادرة على التواصل مع الآخر، وإحداث الأثر الإيجابي لتقديم رؤية ثقافية جديدة».وأضاف: «يفتح الملتقى حواراً تفاعلياً بناءً مع الثقافات الأخرى، ليؤكد أنّنا نتطلع للحاق بأسباب العصر الحديث بزخمه العلمي والتقني مستشرفين آفاق المستقبل»، وأكد: «يعد هذا الملتقى من أهم الملتقيات التراثية في مصر والعالم، الذي يثبت أنّ مصر قادرة على حفظ التراث بفنونه وأنواعه كافة، خصوصاً الخط العربي الذي أصبح مصدراً لإلهام كثير من الفنانين في العالم، وزين المساجد والقصور والبيوت العربية بلوحات فنية».فيما صرح قومسيير عام الملتقى، الفنان محمد بغدادي، بأن «الدورة الثالثة من الملتقي تتميز عن الدورات السابقة، كونها تحظى بمشاركة كبار الخطاطين في العالم من شرقه لغربه، ويشارك بها 90 خطاطاً وخطاطة من مصر و30 من الدول العربية والأجنبية، الذين استلهموا طاقات الحرف العربي في لوحاتهم التشكيلية، ليكونوا حافزاً لشباب الخطاطين لابتكار خطوط جديدة».من جانبه، أكد نقيب الخطاطين المصريين الفنان مسعد خضير أن «ملتقي القاهرة يحفز الشباب على إنتاج أعمالهم، والتجويد فيها لعرضها بالملتقى، فضلاً عن استفادتهم من ورش العمل التي يقيمها الملتقى، والتي يحرص على حضورها طلاب الخط العربي من مختلف أنحاء العالم»، وأضاف: «من دواعي فخري واعتزازي أن تكون الدورة الثالثة من ملتقى القاهرة الدولي الثالث لفن الخط العربي هي دورة أستاذي شيخ الخطاطين المصريين الفنان المبدع الكبير الأستاذ محمد عبد القادر الذي قدم خدمات جليلة لتطور فن الخط العربي».وأوضح أن محمد عبد القادر «بدأ في تعلّم فن الخط العربي على يد أستاذه الجليل الشيخ محمد رضوان بمدرسة خليل أغا الذي كان مشرفاً فنياً على مدرسة تحسين الخطوط الملكية حينذاك، ومُنح جائزة الملك فؤاد وعمرهُ 18 عاماً»، لافتاً إلى أن الشيخ محمد عبد القادر «قد عمل خطاطاً بمصلحة المساحة، وكان ترتيبه الأول على الجمهورية بدبلوم التخصص عام 1937م، ومنح جائزة الملك فاروق وعمره 20 عاماً، كما عمل أستاذاً منتدباً بمدرسة تحسين الخطوط العربية بالجيزة، كذلك بكلية الفنون التطبيقية، ومُنح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عهد الرئيس جمال عبد الناصر».ويشارك في الملتقى الفنان العالمي أحمد مصطفي، فنان الخط العربي، ليكون أيقونة هذه الدورة. والفنان من مواليد الإسكندرية، عام 1943، وهو فنان وباحث في مجال الفن والتصميم الإسلامي، ويعمل أستاذاً زائراً في معهد أمير ويلز للعمارة في لندن، وفي جامعة وستمنستر في لندن، وكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، كما أنّه يدير مركزاً للفن والتصميم منذ عام 1983. وتعرض أعماله في متحف القديس مونجو باسكوتلندا، وفي مجموعة الفن الإسلامي المعاصر بالمتحف البريطاني في لندن، ومتحف الفنون الحديثة بالإسكندرية.وتشهد هذه الدورة إعادة طباعة كتاب يعتبر وثيقة هامة في فنون الخط العربي، وهو كتاب بعنوان «انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والغربي»، للفنان والباحث عبد الفتاح عبادة. ويقول الدكتور أحمد عواض، رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية: «إنّ هذا الكتاب صدر عام 1915، وهو وثيقة مهمة للخطاطين والمهتمين بفنون الخط العربي».ومن جانبه، أكد الدكتور أحمد الشوكي، رئيس قطاع دار الكتب والوثائق القومية، أن كتاب «انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والغربي» فريد من نوعه، فهو يشرح جزئية هامة في الخط العربي، عن الشعوب التي كتبت بالخط العربي، سواء بحروف عربية أو أجنبية، مشيراً إلى أن مؤلفه كان رئيس قلم التسجيل في المحكمة الأهلية.وعن أهمية الكتاب، قال الخطاط المصري الفنان محمد حسن، أحد المشاركين في الملتقى، لـ«الشرق الأوسط»: «إن الملتقى قدم هدية كبرى لعشاق الخط العربي حول العالم، بإعادة طبع كتاب (انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والعالم الغربي)، الذي نشره بإهداء للسلطان حسين كامل عام 1915، عن مطبعة هندية بالموسكي، في مصر»، مؤكداً: «هذا الكتاب (الحُجة) الذي طالما ناديت بأهميته، سواء في كتاب ديوان الخط العربي، أو في بحثي عن (جغرافيا الخط العربي)، في ملتقى الخط العربي بالشارقة، الذي نشر في مجلة (الرافد)، ينفذ إلى ضمير الخط العربي، ببحثه عن الصلات الحضارية والجغرافية واللغوية الجامعة لكثير من الأمم عن طريق الحرف العربي».وأضاف حسن: «لقد سبق الأستاذ عبد الفتاح عبادة التفكير العلمي التقليدي منذ أكثر من 102 سنة، بل سبق ببحثه رؤية (ماكس ڤان برشم)، في الرؤية لعالمية الخط العربي، ببساطة بحثية تجعل من هذا الكتاب مرجعاً في مادته حتى الآن، بعد مرور أكثر من مائة عام على طبعه؛ الأمر الذي يجعل من إعادة نشر هذا التراث أمراً لا بد منه».هذا، وتتضمن فعاليات الملتقى ندوة علمية دولية يشارك فيها 21 باحثاً من دول عربية وأجنبية، وورش عمل وجلسات نقاش حول نشأة وتطور الخطوط العربية، واستخدامات الخط العربي في الفنون التطبيقية، وسبل الحفاظ على هوية الخط العربي، فضلاً عن معرض لأدوات الخطاطين المحترفين والمبتدئين، التي تضم الورق المقهر، وأقلام البسط المصنعة يدوياً، وأحباراً وألواناً وأصباغاً مصنعة من الطبيعة، إلى جانب (أمشق) وكتيبات تعليمية، صاغها كبار الخطاطين في العالم العربي.
مشاركة :