ما قــل ودل: قيودٌ حجبت المحكمة الدستورية عن صون الدستور وحمايته

  • 8/13/2017
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

إن المحكمة الدستورية لا تملك أن تناقش ما ينطوي عليه الدستور من مبادئ وأفكار، بحسبان أن هذه المبادئ والأفكار هي التي ارتضتها الأمة، فهي التي تعبر عن ضميرها وإرادتها وتسمو على ما عداها. تقول المحكمة الدستورية في الكويت في حكمها الصادر بتاريخ 17/5/1994 في الطعن رقم (1) لسنة 94 دستوري إن الهدف من رقابة دستورية القوانين هو صون الدستور وحمايته من الخروج على أحكامه. وتقول المحكمة الدستورية في مصر إن من إهداف هذه الرقابة أيضا ترسيخ مفهوم الديمقراطية التي أرساها الدستور سواء ما اتصل منها بتوكيد السيادة الشعبية- وهي جوهر الديمقراطية - أو بكفالة الحريات والحقوق العامة- وهي هدفها- أو بالمشاركة في ممارسة السلطة- وهي وسيلتها- وذلك على نحو ما جرت به نصوصه ومبادئه التي تمثل دائما القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم ولها مقام الصدارة بين قواعد النظام العام (جلسة 9/10/1990 الطعن رقم 4 لسنة 12ق). إلا أن ما فرضته المحكمة الدستورية من قيود ذاتية على هذه الرقابة حجب المحكمة عن صون الدستور وحمايته بالنسبة إلى بعض القوانين والنصوص التشريعية التي كانت محل طعن أمامها، وهو نهج قضائي دستوري سبقتها إليه المحكمة الاتحادية العليا الأميركية. وقد فسر البعض هذه القيود الذاتية التي فرضتها المحكمة الاتحادية العليا الأميركية في رقابتها للقوانين التي يصدرها الكونغرس، بأنها تصون بها رقابتها وتحميها من أي محاولة للنيل منها أو تقليصها. (SH apiro (M) and tresolinil (R.J) American Constitutional law, 6th ED, 1983 P67) ومن هنا كان الموقف المتشدد الذي تقفه المحاكم الدستورية في تحققها من سلامة إجراءات رفع الدعوى الدستورية وفي الالتزام بمواعيد رفعها وفي تحقيق المصلحة في الدعوى، هو موقف لم تكن تبرره أبدا أن الرقابة الدستورية هي رقابة هدفها صون الدستور وحمايته، ولكن كان المبرر الوحيد لهذا الموقف هو حرص القضاء الدستوري على ألا يقحم نفسه في معركة مع إحدى السلطتين الأخريين. أي أن بسط رقابة المحكمة الدستورية على القوانين التي تقرها السلطة التشريعية، وهي التي تمثل الأمة مصدر السلطات جميعا، قد يدخلها في صراع معها، أو مع السلطة التنفيذية، الأمر الذي يوجب على المحكمة المحافظة على هذه الرقابة من خلال تقييد اختصاصها بقيود ذاتية تفرضها على نفسها، تلافيا لاحتكاك بالسلطة التشريعية، التي تراقب قوانينها، أو بالسلطة التنفيذية التي تنفذ هذه القوانين، وقد تكون هذه القوانين تنفيذا لسياسة عامة رسمتها هذه السلطة الأخيرة لمواجهة عجز مالي في الميزانية أو لمكافحة التضخم أو لمعالجة بعض الظواهر الاقتصادية أو الاجتماعية. ومن هذه القيود التي فرضها القضاء الدستوري المصري على نفسه: قرينة الدستور لمصلحة التشريع - وتعني هذه القرينة أن الأصل هو أن التشريع الذي تراقبه السلطة القضائية يتمتع بقرينة الصحة والسلامة، أي يفترض فيه أنه صدر متفقا وأحكام الدستور، وأن على من يشكك في هذا أن يقيم الدليل القاطع على عدم دستوريته، وهي قرينة تماثل قرينة الصحة والسلامة في القرار الإداري، عند الطعن فيه بالإلغاء. القضاء الدستوري قضاء احتياطي - فلا تفصل المحكمة في دستورية القانون المطروح عليها، إذا كان الفصل في الدعوى الموضوعية ممكنا بتطبيق قانون آخر على النزاع لم يطعن فيه أمام المحكمة الدستورية، أو لم تكن به أي شائبة دستورية. ولا تفصل المحكمة الدستورية في الدعوى الدستورية إلا إذا كان من شأن الحكم فيها أن يؤثر في الدعوى الموضوعية (المحكمة الدستورية العليا في مصر- جلسة 1/2/1992 القضية رقم 35 لسنة 11 القضائية الدستورية). وأن "عمل القاضي الدستوري عمل قضائي من أعمال وظيفته، والمحكمة لا تباشر في ذلك، أو في أعمالها للرقابة إلا وظيفة فنية ذات طابع قانوني مجرد، فهي تتخذ من ظاهرة النص التشريعي أساسا لفحص دستوريته وتستبعد في ذلك كل عنصر غير دستوري". (جلسة 14/6/1986 - 3 لسنة 86 تفسير دستوري). القضاء الدستوري ليس عملا «سياسيا» وهو ما قررته المحكمة الدستورية في الكويت حين قضت بأن العمل السياسي لا يدخل في رقابتها القضائية، بأحكامها الصادرة في الطعون أرقام 2 لسنة 1982 و1 و3 لسنة 1994، وهو قول صحيح نتفق فيه كاملا مع المحكمة، إلا أننا نختلف معها في التوسع في تحديد العمل السياسي في أحكامها وإضفائه على تقدير الضرورة التي تدعو إلى إصدار مراسيم. إلا أن المحكمة الدستورية في الكويت فسرت الخلط بين الرقابة السياسية والرقابة القضائية في الرد على ما أثاره ممثلو مجلس الأمة من رأي حول الطلب المقدم من الحكومة بتفسير المادة (114) من الدستور في طلب التفسير رقم 3 لسنة 1986 من أن اختصاص المحكمة الدستورية بطلبات التفسير يخلط الرقابة السياسية بالرقابة القضائية، إذ قررت المحكمة أنه ليس في هذا ابتداع أسلوب للرقابة السياسية لم يقرره الدستور، وإنما يستهدف بذلك الوقاية من خطر صدور قانون غير دستوري، وليس بإمكان الجهة القضائية مباشرة ذلك إلا بناء على طلب الهيئة السياسية المختصة، كالهيئة التشريعية أو الهيئة التنفيذية، وتكون الرقابة القضائية حينئذ مرتبطة بالرقابة السياسية ونتيجة لها. الرقابة الدستورية القضائية ليست عملاً تشريعياً لأن ما تباشره لا يحمل على أنه من أعمال التشريع، كما أنه لا يمس في قليل أو كثير مبدأ الفصل بين السلطات، طالما أنها تقوم بعملها وفق الإطار الذي رسمه الدستور، وليس في ذلك إهدار للمبدأ ذاته (المحكمة الدستورية في الكويت- جلسة 14/6/1986 ق3 لسنة 86). وإن المحكمة الدستورية لا تملك أن تناقش ما ينطوي عليه الدستور من مبادئ وأفكار، بحسبان أن هذه المبادئ والأفكار هي التي ارتضتها الأمة، فهي التي تعبر عن ضميرها وإرادتها وتسمو على ما عداها. كما لا يجوز أن تحمل هذه الرقابة أي نوع من التوجيه السياسي للسلطتين الأخريين، أو أن تتسلط عليهما بأي نوع من أنواع التسلط بمناقشة المسائل السياسية التي تتشعب فيها الآراء وتختلف فيها السلطتان، أو تختلف فيها الأحزاب والتكتلات السياسية، أو تبدي رأيها في كل ذلك، وإلا فإنها تخلق بهذا التسلط والتدخل ما يسمى بحكومة القضاة، وقد كانت الخشية من ذلك هي سبب إحجام البعض في الفقه المقارن عن تأييد الرقابة القضائية على دستورية القوانين. يراجع في تفصيل ذلك مؤلفي "المراسيم بقوانين" الصادر سنة 1995. وللحديث بقية إن كان للعمر بقية.

مشاركة :