جرعة مليئة بالتفاؤل والحب والفرح نثرتها ليلة السبت – الأحد، المطربة اللبنانية ماجدة الرومي في ختام مهرجانات بيت الدين، بحضور جمهور عريض تجاوز الأربعة آلاف شخص، ما اضطرّ لجنة المهرجانات الى إضافة مقاعد جديدة كي يتمكن الجميع من حضور حفلة يمكننا وصفها بالاستثنائية. وعلى الأرجح هي الحفلة الأنجح بين حفلات المهرجانات الصيفية في لبنان هذا العام. فلا يختلف اثنان أن ماجدة الرومي فنانة قديرة راقية وسيّدة الغناء الكلاسيكي، ونجحت في المحافظة على استمراريتها بنجاح والمحافظة على قوّة صوتها ، على رغم تخطيها الستين من العمر. فهي تتربّع على عرش الغناء الكلاسيكي الشعبي الراقي الذي يعاني اليوم من أمراض تطاول الكلمة واللحن والجملة المغناة بشكل عام. لكنها كلّما أطلقت أغنية تؤكد أنها ديفا حقيقية، تعرف كيف تختار أغانيها وقصائدها وتعرف مع من تتعامل من الملحنين والموسيقيين والشعراء، لدرجة أنك تخال كلمات أغانيها البليغة الجميلة والحالمة مكتوبة في زمن سابق حيث كان للأغنية مكانتها وروادها، كما حصل مع قصيدة «لا تسأل» التي أطلقتها في بداية العام 2017 وحملت عنوان حفلة بيت الدين أول من أمس. فأعمال ماجدة الرومي القديمة لا تختلف بقيمتها الفنية العالية عن الجديدة، على رغم أنها جدّدت في أسلوبها وحدّثت جملتها الموسيقية لتكون أقرب الى نبض الشباب والبوب. والملحنون يحسبون حساباً لما يقدمون لها، فهم على الأرجح يجهدون عندما يتعاملون مع ديفا لدرجة تتميّز أعمالهم عن كل ما سبق. تقول ماجدة الرومي في قصيدة «لا تسأل» (كلمات سعاد الصباح وألحان مروان خوري): «يا قدراً يسكن روح الروح ويرسم شكل الوقت»، وهي كانت في حفلة بيت الدين بصوتها الصادح الرخيم البديع كالقدر الجميل الذي يسكن روح الروح ويرسم شكل الوقت، كالقدر الذي منحنا سهرة حالمة تمنينا لو تطول أكثر من ساعتين. فالفنانة التي بدأت حفلتها مع نشيد «بلادي أنا» (من كلمات سعيد عقل وألحان جوزيف خليفة وجان ماري رياشي) ثم تنقلت بين قديمها وجديدها من أغاني الفرح والحب والرومانسية، أعادتنا الى زمن الكلمة البليغة واللحن الجميل وأعادت الينا ذكرياتنا في السبعينات والثمانينات والتسعينات، اذ أدت أروع أعمالها مثل «عم يسألوني» و»ما حدا بعبي مطرحك بقلبي» و «أحبك جداً» و «بس قلك حبيبي»، وهي أعمال يحفظها الجمهور عن ظهر قلب وقد أداها معها كلمة كلمة بحب وحماسة فريدتين. فكانت أصوات الجمهور مسموعة ودقات قلوبهم تكاد تسمع لشدّة التأثر بهذا الانسجام البديع بين صوت الديفا الذي زاده العمر جمالاً ونضجاً، وبين الموسيقى التي عزفتها الأوركسترا اللبنانية بقيادة لبنان بعلبكي وبين الجو الحميم الذي طغى على الحفلة. فالحاضر يشعر أن الرومي تغني له وحده والفرقة الموسيقية تعزف في غرفة مقفلة تخاطبه وحده، وهو أهم ما ميّز هذه الحفلة التي قدّمت على نحوّ عال من الفرادة والتميّز والرقي، وذلك لا يعود فقط الى أهمية صوت ماجدة الرومي وحضورها بل الى الأوركسترا التي برعت في تنفيذ الأعمال وعزفها بمهنية عالية وروح فنية راقية أعطت لكل آلة دورها وحقها ولكل أغنية رونقها الخاص. ولا ننسى طبعاً الكورال الضخم المرافق للرومي والذي يشرف عليه فادي خليل وينتمي بمعظم أعضائه الى فريق جامعة NDU. فهذه الدقة كانت واضحة للعين والأذن ويشعر بها القلب نظراً للانسجام اللافت بين الموسيقيين الـ45 والمطربة والكورال. ففي الأغاني التي تعتبر مسلمات في حفلات الديفا، مثل «يا بيروت» و «كلمات» و «عم يسألوني عليك الناس»، لاحظنا تغييراً إيجابياً في التوزيع (تولاه لبنان بعلبكي بنفسه) الذي زاد الأغاني التي تسكن وجداننا رونقاً وإحساساً. وفي الأغاني التي أدتها الأوركسترا كما هي مكتوبة موسيقياً وملحنة أصلاً في طبعتها الأولى، مثل «اعتزلت الغرام» و «بس قلك حبيبي»، أظهر بعلبكي جدارته في إيصال النغم الى جوارحنا بطريقة أبسط وأسرع وأكثر رهافة، وذلك من خلال توزيع عزف الآلات ومرافقة المغنى وكيفية تقديم الآلات النحاسية والناي والكلارينت والفلوت والوتريات بشكل فني دقيق وجميل. فهو عمل على الأرجح على إيصال الروح الموسيقية، مشتغلاً على عدم الوقوع في الابتذال والتكرار مع أغان يحفظها الجمهور ويعرفها جيداً، وقدّمها في قالب جديد ممزوجاً بين الجاز والكلاسيك والشرقي والبوب. ولكن هذه الدقة والمهنية في العزف، لم تكن محض أكاديمية وجافة كما يحصل مع كثير من قيادات الأوركسترا، لأن بعلبكي اشتغل على انتقاء موسيقيين «يعزفون بقلبهم وليس بوترهم وأيديهم»، كما قال لـ «الحياة». والجدير بالذكر أن بعلبكي يترأس فرقة مادة الرومي منذ سنتين ورافقها في حفلاتها في الجامعة العربية وتونس والجزائر والمغرب والكويت، وفي مهرجانات الأرز وإهدن، محاولاً إعطاء هذه الحفلات طابع موسيقى الحجرة، من خلال زيادة عدد بعض الآلات وخصوصاً النحاسيات والوتريات. إنها حفلة متكاملة بديعة أثبتت فيها ماجدة الرومي أنها سيّدة الخشبة والمباشر وأن العمر يزيدها نضجاً ورونقاً وجمالاً، ففيها استرجعت الديفا ألحان الكبار، منهم الراحل ملحم بركات مع «انت الملك قلبي» و «لا ما رح إزعل عشي» و «اعتزلت الغرام»، وأبوها الرائد حليم الرومي مع «لا تغضبي لا تعجلي» و «إسمع قلبي». وفيها أعادتنا الى ذكريات المراهقة والحب الأول والرومانسية المفقودة اليوم مع أغاني مثل «كلمات» و «لو ترجع الأيام» و «بس قلك حبيبي» و «بالقلب خليك» و «كم جميل لو بقينا أصدقاء» و «أنت وأنا يا ريت فينا نطير» و «ما حدا بعبي مطرحك بقلب». فحلمنا وغنّينا ورقصنا وانتشينا بصوت بديع وليلة حب لا تُنسى..
مشاركة :