على شاشات التلفزة، ظهرت تلك الطائرة بوضوح: إنها طائرة استطلاع روسية تحلّق فوق سماء واشنطن على ارتفاع مماثل لما تكون عليه طائرات نقل الركاب التجاريّة. ولم يتأخر البنتاغون في إيضاح أن تحليقها فوق العاصمة الأميركيّة ليس استفزازاً ولا عدواناً، بل عملاً مشروعاً تضمنه اتفاق «الأجواء المفتوحة» Open Skies الموقّع بين أميركا وروسيا في 1989. (أنظر «الحياة» في 16 تشرين الأول- أكتوبر 2016). وهناك مفارقة مذهلة في تلك الطلعة الاستكشافية تكمن في أنها جاءت تنفيذاً لمعاهدة يفترض أن القصد الرئيسي فيها هو تعزيز الشفافيّة في العلاقات السياسيّة الدوليّة. وفي المقابل، جاء تحليق الطائرة الروسيّة في ظل وضع أشد ما يكون بعداً عن الشفافيّة، خصوصاً في السياسة وعلاقاتها. إذ ما زالت العاصمة الأميركيّة غارقة في نقاش متشابك تماماً طاول أذرع السلطة كلّها، عن تدخل روسي ما زال غامضاً في الانتخابات الرئاسيّة التي أوصلت الرئيس الشعبوي دونالد ترامب إلى الرئاسة. ومنذ وصوله «البيت الأبيض»، ما زالت تلك النقطة فائقة الغموض، بل يزيد كلما تحدث ترامب أو أحد أركان إدارته عن تردي العلاقة مع موسكو بسبب دورها المفترض في الانتخابات الأميركيّة، ببساطة لأن ذلك التدخل يفترض أنه كان لمصلحة ترامب نفسه! وعلى رغم تواتر التصريحات الرسميّة الترامبيّة عن تردي العلاقات مع روسيا ووصوله إلى حضيض غير مسبوق، تسير الوقائع على الأرض بعكس مجرى تلك الكلمات. ويظهر ذلك «التعاكس» بداية من التنسيق في التعامل مع الحرب في سورية وتشعبّاتها التي تمس الخريطة الجغرافيّة- السياسيّة للشرق الأوسط برمته، ولا تنتهي عند التبريد المستمر للأزمة في أوكرانيا ولا الود الفائض في لقاء بوتين- ترامب وغيره. ويأتي تحليق الطائرة الروسيّة ليزيد في تعميق الغموض وتبديد الشفافيّة في العلاقات بين القطبين العملاقين. إذ تقدّمت روسيا بطلب تحليق طائرتها فوق الأراضي الأميركيّة في زمن رئاسة باراك أوباما التي أحجمت عن الاستجابة له، على رغم استناده إلى اتفاق «الأجواء المفتوحة» الموقّعة بين البلدين. أقمار اصطناعيّة مصغّرة في مطلع 2016، تقدّمت روسيا بطلب لإجراء طلعة استكشافيّة فوق الولايات المتحدة بطائرة تحمل أدوات متوافقة مع المعاهدة، لكن إدارة أوباما أحجمت عن الردّ مباشرة عليه. ومع وصول ترامب، تغيّر الأمر في السماء، لكنه بات يساهم في إضفاء مزيد من الغموض على العلاقة بين ترامب وموسكو، بدل أن يزيد الشفافيّة في المشهد السياسي الدولي. وفي منحىً تقني تماماً، تذكر مشهدية الطائرة الروسيّة بأشياء كثيرة تتعلّق برقابة الأرض (بالأحرى السيطرة عليها، وفق تعبير الرئيس جورج وولكر بوش عقب سقوط الاتحاد السوفياتي في الهزيع الأخير من القرن العشرين) استناداً إلى الفضاء، خصوصاً الأقمار الاصطناعيّة التي دخلت في مرحلة الأقمار المصغّرة («مينتشر ستلايت»Miniature Satellite ) وهي صارت صناعة فضائيّة ضخمة أيضاً. (أنظر «الحياة» في 21 شباط- فبراير 2017). وعلى مستوى أكثر «انخفاضاً»، يرد إلى الذهن ثورة التصوير الفضائي بكاميرات الأفراد باستخدام طائرات الـ «درون» Drone، وهي طائرة من دون طيّار يجري التحكّم فيها من بُعد. والأرجح استخدام الأفراد للـ «درون»، يثير ضجيجاً هائلاً ونقاشات صعبة، في الدول كلّها. وطري في الذاكرة، أن النقاش في ذلك الشأن ما زال مستمراً في أوروبا لحد الآن، بل أنّه دخل في مرحلة فائقة التعقيد بعد ضربات الإرهاب في فرنسا في 2015، التي تلاها تكرر ظهور طائرات «درون» في باريس وتحليقها فوق مؤسّسات فرنسيّة سياسيّة وأمنيّة. واستطراداً، من المستطاع القول أنه إذا لم يُحسم مصير تنظيم «القاعدة» وخليفته «داعش»، فالأرجح أن يكون صعباً على الأفراد التمتع بالقفزة المقبلة لصور «سيلفي الشخصيّة»، بمعنى تحوّلها إلى صور «دروني» Dronie. ويأتي الاسم من مزج كلمتي «سيلفي» Selfie و «درون». ولأن طائرات «درون» باتت ذراعاً أساسيّة لأميركا في حربها ضد «القاعدة» وأخواتها، فلربما كان مصير الصور الشخصيّة الفضائية «دروني» معلّقاً بتوازنات السياسة وحسابات القوى وصراعات الجغرافيا السياسيّة! حضور شبح «داعش» إذاً، إنّه زمن ما بعد الحداثة، وزمن ما بعد فضيحة سنودن وتجسس «وكالة الأمن القومي» الأميركية على العالم بأسره. بالأحرى إنّه زمن ينتظر فيه الأفراد حسم توازنات عسكرية عالميّة قبل أن يعرفوا ما هي الصورة التالية التي سيلتقطونها. وفي أميركا، ربط بعض الشغوفين بالتقنيّات الرقمية والطيران معاً، هواتف ذكيّة في طائرات صغيرة من نوع «درون» التي يمكن التحكّم في مسارها عبر موجات الـ «واي- فاي». وتذكيراً، تتحرّك الـ «درون» عبر تلك الموجات نفسها الشائعة تماماً في المنازل والمطاعم والمقاهي للوصول إلى الإنترنت. في الغرب أيضاً، ثمّة من بادر إلى صنع موقع متخصّص لتجميع صور «دروني»، يحمل اسم «فيميو» Vimeo. وبدأ بالعمل منذ عام 2014. ولا تتردّد الأميركية آلكسندرا داو، صاحبة موقع «فيميو»، في القول أنها هي من نَحَت مصطلح «دروني». وبمجرد أن انتشرت تلك الهواية، اندلع نقاش ضخم في أميركا، انتقل في العام الحالي إلى أروقة الكونغرس وردهات المحكمة العليا في واشنطن. ولأن ما يحدث في الثقافة الأميركية، خصوصاً تلك المتشابكة مع المعلوماتية والاتصالات، يتردّد صداه عالميّاً، بات أحد مسارات ثقافة الصورة المعاصرة، مرهوناً بنقاشات تبدأ بالحرية الشخصية وحقوقها والحق في الملكيّة وأمديته ولا تنتهي عند الحرب على الإرهاب ومصائر «القاعدة» وحرب التحالف الدولي على «داعش»، و... التحقيق في انتخابات الرئاسة الأميركيّة! تذكّر تواريخ قريبة في مسار الشفافيّة الضائعة يجدر إلقاء بعض الضوء على المسار الطويل الذي أوصل إلى تلك المعاهدة. بدأ الأمر عقب الحرب العالمية الثانية. وآنذاك، ناقش الرئيس الأميركي هاري ترومان مسألة تبادل المعلومات الحساسة مع الاتحاد السوفياتي، كجزء من مسار خفض التسلح بعد تلك الحرب المدمرة. وتكرّر الأمر مع الرئيس دوايت أيزنهاور الذي أثار أقصى مخاوف لدى السوفيات عندما طرح مبادرة «السماوات المفتوحة» Open Skies Initiative، بمعنى السماح بطلعات استكشافية لجمع المعلومات فوق أراضي قطبي «الحرب الباردة» التي تلاشت فيها الشفافيّة دوليّاً إلى حدّ كبير. في تلك المحاولات، لم تكن الشفافيّة مطلباً بحد ذاتها، بل نُظَر إليها ضمن سياق السلام والأمن. المفارقة أن معاهدة أساسيّة خدمت السلام والأمن، هي «سالت- 1» (1972) في شأن الخفض المتبادل للتسلح النووي بين أميركا والسوفيات، عقدت في زمن «الحرب الباردة»، من دون أدنى جـهد فـي شـأن الشفافيّة. تجربة غورباتشوف المرّة مع وصول الرئيس ميخائيل غورباتشوف إلى الكرملين، عادت الشفافيّة إلى المشهد العالمي. ومع سياسة الـ «بروسترويكا والـ «غلاسنوست» («الإصلاح والشفافيّة»)، تجاوب غورباتشوف مع مطلب الرئيس الأميركي جورج وولكر بوش (الأب) في شأن ربط الشفافيّة مع السلام الدولي. وتوصل الرئيسان إلى اتفاقية في شأن الصواريخ الذرية المتوسطة المدى (1987)، شملت تبادلاً واسعاً للمعلومات الحسّاسة بينهما. وبعد سنتين، استعاد بوش (الأب) رؤية أيزنهاور في شأن «مبادرة السماوات المفتوحة» Open Skies Initiative. وتوصّل الطرفان إلى معاهدة بذلك الإسم، سمحت بتبادل الطلعات الاستكشافيّة بينهما. واحتاج إنجاز التفاصيل التقنية لتلك المعاهدة سنتين، ما جعلها تتخطى وجود الاتحاد السوفياتي و «الحرب الباردة». ووقعت «معاهدة السماوات المفتوحة» بوصفها اتفاقيّة بين «حلف شمال الأطلسي» والأعضاء السابقين في «حلف وارسو»، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ إلا بعد... عــشر سنوات! والمفارقة أن المعاهدة ساهمت في تعزيز التعاون العسكري بين الأطراف الموقعة عليها (تبلغ 34 دولة حاضراً)، أكثر من تعزيزها الشفافيّة. ورفضت روسيا السماح بطلعات فوق موسكو وإقليم كاليننغراد (امتداد للأراضي البولونية على بحر البلطيق). وتوقّفت أميركا عن الطلعات فوق الحدود الأوكرانيّة، بعيد حادث إسقاط الطائرة الماليزيّة هناك. وتنص المعاهدة على إبلاغ الدول بمواعيد الطلعات وتفاصيل المجسات والكاميرات والرادارات المستخدمة للحصول على موافقتها المسبقة. دور الهند وكذلك الـ «سوشال ميديا» في مجال رقابة الأرض من الفضاء الذي أعاد تحليق طائرة استطلاع روسيّة فوق واشنطن فتح ملفّاته المتشابكة، يصعب عدم تذكّر الإنجاز الكبير الذي سجّلته الهند في شتاء العام الجاري، بإطلاقها 104 أقمار اصطناعية مصغرة سويّة، حملها صاروخ هندي واحد. (أنظر «الحياة» في 17 شباط (فبراير) 2017). طريّ في الذاكرة أيضاً أنّه في خريف عام 2014، سجّلت الهند سبقاً مذهلاً بأن كانت أول دولة آسيويّة تستكشف الكوكب الأحمر بأن وضعت قمراً اصطناعيّاً في مدار استكشافي حول المريخ، وصله بعد سنة كاملة من الطيران في الفضاء الكوني. إذ حمله صاروخ فضاء هندي من مركز «إسرو» الفضائي في خريف 2013، ووصل إلى مداره حول المريخ خريف 2014. وآنذاك، صارت الهند رابع دولة ترتاد المريخ، بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد السوفياتي السابق. وسجّلت تقدّماً ضخماً على الصين، يندرج في صراع آسيوي متعدّد الأبعاد بين «التنين الصيني الأصفر» و «النمر الهندي الزاحف». إبحث عن السياسة ولم يُنفَق على الإنجاز المريخي سوى 74 مليون دولار، ما جعل الهند تفاخر بأن مهمّاتها في الفضاء هي الأقل تكلفة بين الدول كلها. وتذكيراً، تصنع الهند خمسة أنواع من الصواريخ القادرة على حمل مركبات إلى الفضاء الكوني، بداية من المدارات حول الكرة الأرضيّة ووصولاً إلى المريخ. أدّت الأقمار الاصطناعيّة دوراً هائلاً في تعزيز الشفافيّة خلال العقود الأربعة المنصرمة. وامتد دورها من جمع معلومات عن المحاصيل الغذائيّة الأساسيّة (قمح، ذرة، رز، شعير...) إلى كشف المقابر الجماعيّة التي خلفها نظام الديكتاتور صدام حسين، مروراً بتغطية الكوارث الكبرى كالـ «تسونامي» والزلازل، وانفجار المفاعلات النوويّة وغيرها. في السنوات القليلة المنصرمة، دخلت الأقمار الاصطناعيّة التجاريّة إلى ذلك المشهد، خصوصاً مع ظهور الأقمار الاصطناعيّة الصغيرة الحجم والقليلة التكلفة والقادرة أيضاً على بثّ صور رقميّة على مدار الساعة. وفي معطى العدسات المحلّقة التي يتحكّم بها الجمهور، سجّل عام 2015 مبيع مليون «درون» في الولايات المتحدة، إضافة إلى ترخيص قرابة 3 آلاف شركة لاستخدام تلك الطائرات. ويتوقّع أن يرتفع السوق العالمي للـ «درون» بثلاثة أضعاف حجمه حاضراً، خلال سنوات قليلة مقبلة. وبقول آخر، أحدثت الـ «درون» نقلة نوعيّة في المواد الموثّقة المتاحة للجمهور، خصوصاً عبر الـ «سوشال ميديا»، بل أن محلّلي محتوى شبكات التواصل الاجتماعي باتوا يستندون إلى كاميرات الـ «درون» في تحليلاتهم للحوادث، ما يزيد انكشاف الحكومات والدول أمام أعين جمهور يتزايد تطلّبه للشفافيّة بصورة متصاعدة.
مشاركة :