منظمات المجتمع المدني والعمل السياسي.. حدود الاتصال والانفصال

  • 8/15/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

توجهات الدولة ليست ثمرة محرمة ولا ملكا مستباحا، ومنظمات نقابية تعاظم دورها في بلاد كثيرة من العالم حتى أطاح بعضها بحكومات منتخبة.العرب  [نُشر في 2017/08/15، العدد: 10723، ص(12)]زيارة وفد من المنظمة النقابية لسوريا أثارت جدلا واسعا تونس - العمل السياسي بمفهومه الاحترافي المباشر، سواء كان منضويا تحت حزب يحكم أو آخر يعارض، هل يسير حقا بالتوازي والتوازن مع العمل الجمعياتي من نشاط نقابي وتحرك حقوقي وغيرهما، أم أنّ التقاطع وارد، والتداخل بين السياسي والمدني بات سمة تطبع الاثنين وتلغي الحدود الفاصلة التي يصرّ فريق على محوها وإذابتها بينما يعمد فريق ثان لاحترامها وتكريسها؟ ذرائع كل فريق تبدو منطقية وتحشد لها مبررات كثيرة إذ تتخذ من نبل الهدف وإنسانيته منبعا ومصبّا لكنّ المنزلقات كثيرة هي بدورها، فالسياسة حاضرة وتطل برأسها في كل نشاط بشري مهما بدا بسيطا وواضحا ومغلّفا بمضمون إنساني وخيري، ذلك أن الفخاخ قد تنصب في كل طريق تدّعي الاستقامة والوضوح لأن المنعرجات والمطبّات والحفر واردة ومتوقعة، فكم من نشاط مدني أو حقوقي أو نقابي أو إغاثي، حاد عن المرمى الذي بعث لأجله وتلقفته لغة المصالح بشتى مشاربها الخاصة والعامة، الداخلية والخارجية والسياسة، كما يعلم الجميع، هي فن استثمار النشاطات والمصالح بلا منازع. البعض يرى أن الفصل بين النشاط السياسي والنشاط المدني كالفصل بين وجهي العملة الواحدة، ذلك أن التلازم بين العملين قديم قدم نظم المجتمعات البشرية وتشابك مصالحها عبر بعدي التاريخ والجغرافيا، ولعلّ الأمثلة لا تحصى في تكامل النشاطين السياسي والمدني، كالارتباط العضوي والتفاعلي بين النضال النقابي والنضال التحرري عبر التاريخ القديم والحديث، ممّا أكسب منظمات مدنية كثيرة نوعا من المشروعية للخوض في المسألة السياسية ومناقشة القضايا الوطنية والخيارات المصيرية انطلاقا من تلك "المصداقية" والتي قد توضع بدورها على المحك، إذ أن هذه "الشرعية النضالية" لا تجعلها فوق الشبهات أو في منأى عن المساءلة والمحاسبة حين تحشر هذه المنظمات المدنية أنفها في الشأن السياسي خصوصا في المجتمعات الديمقراطية التي تفصل بين السلطات وتحدد واضحا مساحة النشاطات والصلاحيات لقوى ومنظمات المجتمع المدني التي ينبغي لها أن تكون مكمّلا ومراقبا وضاغطا على الحكومات وليس بديلا يحل محلها ويتحدث باسمها. التغوّل والتمدّد والتعدّي على دور الحكومات الشرعية من طرف المنظمات المدنية، مخاطر قد تهدد أي ديمقراطية ناشئة وتعصف ببعض المكاسب الحضارية إن لم يقع الانتباه إليها والتحذير من استفحال دورها في غير وجه حق قانوني ودستوري. الزيارة التي قام بها وفد من الاتحاد العام التونسي للشغل إلى سوريا في الأسابيع الماضية، وبصرف النظر عن الموقف السياسي منها ودلالاته، فإنها أثارت جدلا كبيرا حول دور منظمات المجتمع المدني، والمسافة الفاصلة بين المدني والسياسي، فبقدر ما هلل البعض لهذه الزيارة واعتبرها إمساكا بزمام مبادرة "شجاعة وجريئة" نحو رأب الصدع الذي حصل بسبب موقف سياسي اتخذته حكومة سابقة ونتج عنه انقسام حاد بين مؤيدين ومعارضين كاد يصل حد الفتنة، بقدر ما اعتبره آخرون "تدخلا سافرا" في سياسة الحكومة الخارجية، والتي تعتبر من الثوابت السيادية والوطنية، مما يفقد الدولة هيبتها، ويجعلها بمثابة التابع لهذه المنظمة النقابية، ومهما كانت عراقة الأخيرة وريادتها في النضال من أجل الاستقلال الوطني. الأمر لا يقتصر على منظمات نقابية تعاظم دورها في بلاد كثيرة من العالم حتى أطاح بعضها بحكومات منتخبة، بل تتوسع الدائرة نحو منظمات حقوقية تتهم بالتدخل في سياسات الدول وتتجرأ على قوانين ودساتير واتفاقيات ومعاهدات دولية، متذرعة بمسألة حقوق الإنسان التي أصبحت في نظر الكثيرين من المراقبين ثوبا فضفاضا يخفي تحته مآرب أخرى. ولعلّ أفضل مثال حي وطازج عمّا سبق ذكره، هو منع السفينة الأوروبية التابعة لمنظمة حقوقية من دخول المياه الإقليمية الليبية بقرار يعتبره البعض سياديا، ورحبت به أوساط اليمين الأوروبي بذريعة أن هذه المنظمة الحقوقية تشجع على مغامرة الهجرة غير الشرعية عبر تقديم الغوث والدعم، ممّا يوهم الشبان بأنهم في منأى عن الغرق والهلاك فيندفعون بأعداد أكثر من ذي قبل.. والحقيقة في جوهرها، تكاد تضيع بين تعلّة وأخرى فلا تجعلنا نذهب بعيدا في مساندة المنظمات المدنية وحقها في ممارسة "الفعل المباشر" وإن كان مسيسا، ولا هي جعلتنا ندعو لجدار فصل بين العمل السياسي الذي يستمد شرعيته وأحقيته من ثقة جمهور الناخبين من جهة، وبين النشاط النقابي والحقوقي والإنساني الذي تدعوه المصلحة العليا للمواطن إلى التدخل المباشر معتبرا أن الفعل السياسي ليس ثمرة محرّمة، ولا يتناولها إلا السياسيون، من جهة أخرى. اقرأ أيضا: ارتهان لصالح أطراف خارجية وسعي لهدم الدولة المنظمات المدنية ضرورية وضمانة لتحقيق المشاركة المجتمعية

مشاركة :