التركيز على قضية الخمر يؤكد جهلا فاضحا بالتاريخ الإنساني وفي العمق منه الحضارة الإسلامية، ولا يكون التنادي إلى الحرب على الخمور إلا سترا لعورات الأنظمة الضعيفة وبداية للنيل من الحريات الشخصية.العرب سعد القرش [نُشر في 2017/08/15، العدد: 10723، ص(9)] لا يستقر “الدعاة” الهواة والرسميون على حال، فإذا كان الخطاب موجّها لمستهلك مسلم فهو مكي يعنى بالعقيدة، وتبذل الأعمار لإثبات أن للكون إلها. وإذا اُستهدف المسيحيون بالخطاب فيكون مدنيا يكتسب قوته الاستعلائية من الرصيد التاريخي لمراحل المد والفتوحات التي يرونها ثمرة مستحقة لتطبيق “الشريعة”، ويتسع المجال لممارسة شيء من المازوشية، والجلد مستمعين فقراء بتحميلهم نتيجة “انحطاط المسلمين”؛ لأنهم تخلّوا عن منهج الله، إذ يرتكبون المعاصي فيكنزون الذهب ويلبسون الحرير ويشربون الخمر. لا يبالي هؤلاء المسلمون الفقراء كثيرا بمثل هذه الخطب، فقد سمعوا منها نسخا منذ سن مبكرة، وسيسمعها أبناؤهم في القادم من الأيام، ولا ينصتون إلى أداء صوتي لا علاقة له بأحوال متردّية وأوضاع اقتصادية لا تتيح لهم رفاهية ارتداء الحرير ولبس الذهب، ثم إنهم يرون ما ينعم به نجوم “الدعاة”، ولا تفوتهم مفارقة امتلاك سيارات فارهة ومساكن تنسف فكرة الزهد، وساعة يد تتضاءل بجوار ثمنها دبلة أو خاتم ذهبي، ولكن هؤلاء النصوصيين لا يعرفون حكمة التحريم. هذه تفاصيل لا تخفى على فقراء يتأكد لهم أن “الدعوة” مهنة مربحة، وجاهة وأكل عيش، وأن “الدعاة” خارجون من بطون الكتب القديمة، وكان أحدهم يقرأ خطبة الجمعة برتابة تأخذ المصلين إلى النوم حتى توقظهم إقامة الصلاة، ثم نبّهوه إلى التخلي عن القراءة فاستجاب، وأنهى خطبة الجمعة التالية بأن قضية الخمر “خطيرة ولا تتسع لها هذه الصفحات”. فهل يؤدي الإلحاح على ذكر الخمر إلى إصـابة “الدعاة” بشيء من سكرها؟ لإثارة قضية الخمر الآن، واعتبارها قضية القضايا، عنوان واحد هو الملهاة، بمعنى المساخر والإلهاء معا، وفي هذا الهزل لا تعرف أين تنتهي السخرية ولا أين تبدأ الجريمة؟ لم يخالف المواطن الذي ضبطته الشرطة في الأقصر قبل أيام حاملا زجاجتي خمر قانونا. ومن خالف القانون هو شرطيّ منافق لا يختلف إلا في الدرجة عن شاب ذبح في الثاني من يناير 2017 المواطن المسيحي المصري يوسف لمعي، صاحب محل للخمور بالإسكندرية. الشاب السلفي أداة لتنفيذ الجريمة، أما المجرم فهو “داعية” حشا عقله بالخرافات، وأطلقه ليقتل مسيحيا بريئا أمام الناس؛ بتهمة بيع الخمر. ومن الملهاة التي لا تنتهي فصولها أن تُجمع البيانات الرسمية على أن المجرمين، أدوات القتل وإشعال الحرائق، مختلّون عقليا يعانون اضطرابات نفسية. وسيعجز علماء النفس عن تفسير إجماع هؤلاء “المجانين” على استهداف الكنائس وأهلها بالعدوان. الجناة (المحرضون بالقول والقتلة) لا يصادقون شاربي خمر، وفي هذا السلوك “الوقائي” عزلة عن الحاضر، وعدم دراية بمعرفة أخلاق محبي الخمر. ولا يمكن لهم، ولا لغيرهم من المهووسين بالتديّن الشكلي، اتهام شارب للخمر بثقل الظل مثلهم، أو الادعاء بمشاركته في إيذاء أحد، أو حثه على كراهية أو ازدراء لمنتمين إلى أديان ومذاهب لا يؤمن بها، وربما يكون أكثر منهم قربا إلى الله، وإيمانا بجوهر الأديان، وآية “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”، وحديث “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”، وأول الأمور المتروكة هو الانشغال بمراقبة تديّن الآخرين. كما يؤكد التركيز على قضية الخمر جهلا فاضحا بالتاريخ الإنساني وفي العمق منه الحضارة الإسـلامية، ولا يكون التنادي إلى الحرب على الخمور إلا سترا لعورات الأنظمة الضعيفة، وبداية للنيل من الحريات الشخصية. كوميديا الخمر دليل على استحالة وضع المطلق والنسبي في سلة واحدة، منذ تجربة أخناتون إلى تجارب طالبان وحركة حماس والمحاكم الإسلامية في الصومال، وما سمّي بحكم الشريعة في السودان، إذ يسارع تطبيق تصور سياسي وعسكري للدين إلى تقسيم العباد إلى فرق يلوذ كل منها بمنطقة ويعلن دولته، ثم تتوالى الانشطارات وكل منها يستند إلى تفسير لمـا يرى أنـه الشريعة. وفي مجتمعات علمانية دفعت ضريبة الفصل بين الديني والسياسي تكون “كل نفس بما كسبت رهينة”، ولا أحد يكتسب حصانة لانتمائه إلى جماعة أو هيئة دينية أو عسكرية، وذلك أرفع درجات الإيمان بالدين والدنيا. كوميديا الخمر ربما تصبح تراجيديا، بعد إضاعة فرصة نادرة أتاحتها روح ثورة 25 يناير من العام 2011 قبـل أن تخبو وتتبدّد، ويحتمي كل خائف ومحبط بفرقته الناجية. كان قد مضى على خلع حسني مبارك خمسة أيام، وأصدر مثقفون في 16 فبراير 2011 بيانا عنوانه “نحو دولـة علمانية” للمطالبة بتعديل المادة الثانية من دستور 1971، ونصّها “الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، على أن يكون تعديل هذه المادة التي لم يقل البيان إنها طائفية “بما يتوافق مع متطلبات التحديث والإصلاح التي نادى بها شباب ثورة 25 يناير عملا بمبدأ الـدين لله والـوطن للجميع”. أصحاب البيان الحالم لم يواصلوا الضغط لكي يمنحوه شرعية الحضور في الشارع، ليكتسب التأييد بتشديده على احترام حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع، في ظل دولة مدنية “يجب أن تظل بمنأى عن التيارات والأهواء الدينية، وأن تلتزم بالـدفاع عن حقوق المواطنة، وأن تحث المواطنين، جميعـا، على احترام القـانون الوضعي الذي من شأنه أن يعيد للدولة المصرية هيبتها ومكانتها بين دول العالم”. كما أكد أن مبدأ العلمانية في الدولة المدنية “ليس نفيا للدين أو نفيا لحق المواطن في ممارسة الشعائر، بل هو دعوة صريحة لفصل الدين عن الدولة ومبادئ التشريع فيها، بما يكفل لكل مواطن حقوقه الأساسية المشروعة”، وأولها الاعتقاد. ترنحت سفينة الثورة، وفقا لنوع الموجة وقوتها، فاقتربت ونأت، وابتعد معها حلم الدولة المدنية مع نص المادة 219 في دستور الإخوان على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنة والجماعة”. وكان ضحاياها أربعة من الشيعة جنوبي القاهرة، قُتلوا وسُحلوا، وسط هتاف الفرحين بالنصر “الله أكبر” في يونيو 2013. أما دستور العام 2014 فيحتشد بالفخاخ، ويدعمه توافق ديني عسكري، في انتظار تناقضات تسمح بثغرة في جدار يزداد كل يوم ارتفاعا، وهذا أكبر عقاب لحسني النية، حين ارتضوا نصف ثورة، لنعود إلى ما قبل الثورة، ثورة يوليو 1952؛ فلم تهتم الصحف بنشر خبر إسلام فنانة مصر الأولى آنذاك ليلى مراد، واحتراما لحريتها، ولكن خلع ممثلة للحجاب يصبح الآن حديث الفضائيات، ويرفع محام مهووس قضية حسبة؛ غيرة على الإسلام الذي تخلو أركانه الخمسة من الحجاب. ليس أخطر على المستقبل من الاستهانة بحرية الفرد الواحد الأحد، وكان تأجيلها مؤقتا بعد ثورة 25 يناير 2011 إرجاء إلى أبد لن تنهيه إلا ثورة كاملة. روائي مصريسعد القرش
مشاركة :