النظرة إلى الجريمة مجرد غرابة أخرى من غرائب البشر. يمضي مقتل 800 ألف رواندي بالسواطير حدثاً فوق العادي بقليل، يحال سريعاً على النسيان، ويرفض مقتل نحو 300 شخص في لوكيربي الإحالة على الأرشيف. لماذا؟ هل لأن ضحايا لوكيربي غربيون بيض؟ ربما. إلى حد ما. ولكن ليس تماماً. اغتيال الأسمر مارتن لوثر كنغ هو أيضا لم يُنس. هل هي أهمية الأفراد أو شهرتهم؟ ربما. إلى حد ما. لاحظ أن أكثر الكتب مبيعا في التاريخ، مثل روايات أغاثا كريستي أو أرثر كونان دويل (شرلوك هولمز) كانت حول مقتل فرد لا كارثة جماعية. ولا يزال الملايين يبحثون عن القاتل في «قطار الشرق السريع» حتى اليوم. إذن، البشر متفقون، أو متواطئون على الاتفاق، على أن هناك جرائم لا يكون فيها الضحايا أبرياء فقط، بل أطهار. فما ذنب اللبناني المسافر على طائرة بانام من فرانكفورت إلى نيويورك لكي يسقطه القذافي فوق قرية لوكيربي؟ وما ذنب اللبناني وزوجته المسافران من أمستردام إلى كوالالمبور لكي يُقتلا فوق أوكرانيا مع ما يزيد على 200 شخص؟ فكر فيها: لبناني على طائرة ماليزية يُقتل فوق أوكرانيا. الذي يثير الناس وحنقها هنا أن القاتل مجرم فكر في جريمته طويلا قبل ارتكابها. محمد عطا فكر طويلا قبل أن يخطف طائرة مدنية يدمر بها برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ونحو أربعة آلاف إنسان لا يعرف عنهم شيئا. إسرائيل فكرت قبل إسقاط طائرة ليبية مدنية عليها وزير الخارجية عبد العزيز بويصير. موسكو السوفياتية عرفت تماما أنها تسقط بالصواريخ طائرة كورية جنوبية مدنية ضلت طريقها في أجوائها. تعتاد الناس خبر مقتل 200 شخص يوميا في غزة أو سوريا على أنه أمر «متوقع»، لكنها لا تتقبل إسقاط طائرة مدنية إيرانية في أجواء الخليج بنار الأسطول الأميركي. للناس في الأجواء حصانة مضاعفة. فهم من الناحية النظرية لا علاقة لهم بصراعات الأرض. وهي أرض موبوءة بالجريمة في أي حال ونزعة القتل والزعران. مسكينة الشركة الماليزية، تلاحقها اللعنات الغامضة. الطائرة الأولى تبخرت مثل «قبعة الإخفاء»، والمنكوبة الثانية تمزقت بصاروخ مصنوع للحروب الكبرى. تدلك هذه الكارثة لماذا تحرص الأمم، رغم لامبالاتها، على ألا تقع الأسلحة المدمرة في أيد لا تعرف معنى المسؤولية. ففي القاموس العالمي الموت الجماعي أنواع. أعلن باراك أوباما السلاح الكيماوي خط أحمر، وترك سائر الأسلحة الأخرى بلا خطوط. لم يفعل ذلك حرصا على أرواح السوريين، بل خوفا من ردود الفعل في الغرب. لا أحد يعرف عدد الأكراد الذين قتلوا في حروب بغداد لكن أحدا لا ينسى اختناق حلبجة في لحظة واحدة بجميع أرواحها، أطفالاً وأجنّة وكبارا. لماذا يستفظع العالم إسقاط طائرة مدنية أكثر من حرب حدود؟ لماذا؟ لأن باراك أوباما سوف يكون لهم بالمرصاد وينادي فورا على وزير الخزانة «جاكوب لو»، صارخا بنبرة صارت مألوفة لدى الوزير: دفتر العقوبات يا جاكوب. أسرع.
مشاركة :