لاقت المبادرة الكبرى للبناء المشترك "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير" و"الطريق البحري لطريق الحرير في القرن الـ 21"؛ التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ أثناء زيارته لبلدان آسيا الوسطى وبلدان جنوب آسيا وشرقها خلال شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول من عام 2013 اهتمامًا كبيرًا من قبل المجتمع الدولي، كما لاقت ردود فعل إيجابية من الدول المعنية. وفي مارس/آذار عام 2015 أصدر مجلس الدولة "الرؤية والتحرك"، لتضفي قوة متسارعة للأطر الاستراتيجية لمبادرة الحزام والطريق؛ حيث قامت بالعمل الإعلامي والدعائي لهذه المبادرة على أفضل وجه، وقدمت المفاهيم الأساسية والمعارف المتعمقة حول المبادرة، واستوعبت فرص التنمية للحزام والطريق لكل شخص، وكل مجال عمل، وصبت اهتمامها على صيغة الإيصال الفعالة لصوت الصين على المستوى العالمي، وإزالة الشكوك التي تطفو على سطح الرأي العام العالمي في حينها، والسعي لتحقيق الأهداف التاريخية القومية العظيمة النهضوية. وصدر أخيرا ترجمة لكتاب "قراءات في الحزام والطريق" قام بتحريره البروفيسور: تشين يوي تساى ـ تشو قو بينغ ـ لوه ويّ دونغ من مركز الابتكار التعاوني لمبادرة الحزام والطريق بجامعة تشيجيانغ، وذلك تحت إشراف القطاعات المعنية لمجلس الدولة؛ عملًا على تعميق معرفة القارئ "بالحزام والطريق"، وتأكيدا على أن بناء "الحزام والطريق" يعد عملية تنظيمية طويلة المدى، واستراتيجية كبرى على المستوى الوطني الصيني للعقود القادمة، وربما لمدة أطول، وتحمل رؤية الصداقة بين كل أنحاء العالم المتفرقة، والنهضة العظمى للأمة الصينية الواعدة، كما تقدم إسهامات حديثة على صعيد السلام والاستقرار والازدهار العالمي. الكتاب الذي ترجمته كل من د. رشا كمال ود. شيماء كمال وصدر عن مؤسسة بيت الحكمة للثقافة والترجمة بالصين بالتعاون مع دار سما للنشر، يقوم على التحليل والتفسير المعتمدين على نظام متكامل وغوص عميق في (الرؤية والتحرك) كأساس راسخ وقاعدة متينة له، ليمزج الثقافة التاريخية والمعارف المعلوماتية والتحليلات المتخصصة في بوتقة واحدة، مستندًا إلى نظرة شمولية وتحليل عميق للتنمية المستقبلية؛ التي سيحدثها الحزام والطريق بالصين، وتأثيرها بعيد المدى على الصعيد الدولي؛ وذلك باستعراضٍ بانوراميٍّ تاريخيٍّ ونظرة بانوراميه عولمية؛ وذلك رغبةً في أن يصبح إدراك واستيعاب القارئ لمبادرة "الحزام والطريق" أكثر دقة وصوابًا. الكتاب استند في رؤاه وأفكاره على الركائز التي أطلقها رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ في كلمته أثناء افتتاح المؤتمر السادس لوزراء منتدى التعاون الصيني العربي، وتشكل روح "طريق الحرير" وجوهره التي تتسم "بالتعاون السلمي - شمولية الانفتاح - التعلم والاستيعاب المتبادلين - تشارك المصالح والمكاسب". هذا التنظير المهم لروح "طريق الحرير" أضفى عليها مغزى عصريًّا جديدًا، وحدد هدفًا ومسارًا جديدين لنشر روح طريق الحرير. وقد حلل محررو الكتاب هذه المرتكزات، فأشاروا إلى أن التعاون السلمي هو ما يتمخض عن الحوار الصريح والتواصل العميق والتبادل القائم على المساواة، فإن تعميق التعاون والتبادل بين الدول والمناطق المختلفة من شأنه تشكيل كيانات مشتركة على صعيد المصالح والمسؤوليات والمصائر، ما يجعل أسبقية العلاقات السياسية وميزات التجاور الجغرافي وأسبقية التكامل الاقتصادي تتحول إلى أسبقية التعاون العملي وأسبقية النمو المطرد، وإن السلام والتنمية هما موضوع الساعة، وإن الاعتماد على السلام لدفع التعاون والاستناد إلى التعاون لتسريع التنمية هما اتجاه العصر؛ بل اليوم حين نتطرق لنشر روح "طريق الحرير" وإحيائه، وبناء الحزام والطريق. أما شمولية الانفتاح فقد عنت الاستناد إلى انتقاء الرؤى العالمية والفكر الاستراتيجي ونشرهما، ولم يهدف نشر روح "طريق الحرير" وإحياؤه التي تتسم بشمولية الانفتاح إلى "فتح عيوننا لنرى العالم" فحسب؛ بل المبادرة إلى "الانطلاق نحو الخارج" للانصهار مع هذا العالم الضخم، والأهم أن نعمد لهذه الروح المرنة التي تشبه البحر في استيعابه مياه آلاف الأنهار للاعتراف بالخيارات المتباينة للأقاليم المختلفة والأمم المختلفة في جميع المجالات من العادات الثقافية وأطر التنمية؛ وذلك عملًا على تحقيق الرخاء والتنمية المشتركين؛ فقد أشار شي جين بينغ إلى مقولة مأثورة: "ليس شرطًا أن تتشابه الأحذية، فالمرء يرغب في أن يناسب الحذاء مقاس قدمه فقط لا غير، كما لا يشترط الواقع أن تتماثل طرق حكم الدول وإدارتها، فالشعوب تتطلع إلى الثمار التي ستحصدها من وراء ذلك فحسب". هل تناسب أطر التنمية تلك دولة ما أم لا؟ في الواقع يحق لمواطني تلك الدولة فقط أن يجيبوا عن هذا السؤال؛ فمن المؤكد أن الكثير من التباينات تقبع بين طيات النظم الاجتماعية والمفاهيم القيمية ومستويات التنمية والعادات التاريخية والديانات والعقائد إلى جانب الخلفية الثقافية لدول العالم المختلفة، ولكل منها الحق في اختيار ما يناسبه من نظم اجتماعية وأطر تنموية وأساليب الحياة، وعبر عملية تعميق التبادل والتعاون بين الدول الواقعة في نطاق مبادرة "الحزام والطريق"، ينبغي المثابرة على روحها التي تتسم بشمولية الانفتاح واحترام النظم الاجتماعية والأطر التنموية التي انتقتها كل دولة لنفسها، لا سيما احترام المصالح الرئيسة والشواغل الأساسية، إلى جانب النظرة الموضوعية المثالية لظروف التنمية والمفاهيم السياسية للدول المختلفة، مع السعي لإيجاد قاعدة مشتركة للتعايش واستيعاب الآخر. وبالنسبة إلى مرتكز التعلم والاستيعاب المتبادلين فقد رأى محررو الكتاب أنه يعني احترام التعددية الحضارية وتعددية الأطر التنموية، واحترام وحماية حق كل الدول في انتقاء النظم الاجتماعية والأطر التنموية الخاصة بها، وتبادل الخبرات، وأن نتعلم من بعضنا البعض من خلال انتقاء المحاسن وتجنب المساوئ، وإن "طريق الحرير" كممر تجاري يمتد عبر الصين وصولًا للغرب إذ يربط بين أوروبا وآسيا، ولا يحقق تبادلًا تجاريًّا للمنتجات والبضائع فحسب؛ بل يحقق تبادلًا وتمازجًا على المستوى الثقافي؛ لذا ينبغي على الدول الواقعة في نطاق مبادرة "الحزام والطريق" وعبر هذا التبادل، احترام الثقافات والديانات والعقائد المختلفة، مما يعزز التقدم الحضاري الإنساني؛ كما يجب إزالة جميع الشكوك وعوامل النفور، واعتماد موقف متواضع وروح شمولية، خلال تعميق عملية بناء "الحزام والطريق"، لدراسة الخبرات ذات القيمة في مسارات تنمية كل الدول واستيعابها؛ لنجعل التعلم والاستيعاب المتبادلين على صعيد التواصل الحضاري بمنزلة جسر صداقة لشعوب هذه الدول وقوة دافعة للتطور الإنساني الاجتماعي ورابط يحمي السلام العالمي. والمرتكز الأخير تشارُك المصالح والمكاسب فهو هو تبادل الثمار وتشارُك الحصاد؛ اللذان يتكاملان فيما بينهما لتحقيق المنفعة المشتركة لطرفين أو لأطراف متعددة؛ وقد أكد شي جين بينغ أمام منتدى التعاون الصيني العربي بقوله: "ما دمت تستطيع أن تعيش في رغد، فدع الآخرين ينعمون بالعيش الهنيء أيضًا". وفي الآونة الأخيرة يتواصل تنامي واتساع حجم التبادل التجاري والاستثماري بين الدول الواقعة في نطاق مبادرة "الحزام والطريق"، وتتعمق معه حدود المنافع والتمازج فيما بينها؛ حيث يربط الحزام الاقتصادي لطريق الحرير بين المناطق المختلفة لقارتي آسيا وأوروبا، كما يمزج بين مصالح دول القارتين المختلفة، ويجاهد لتحقيق التكامل بين أفضليات تلك المناطق والدول، وتشارك الفرص والتنمية المشتركة بينها، وإن تعميق الصداقة والتعاون، مع تحقيق تشارك المصالح والمكاسب هما القوى الدائمة الدافعة لتنمية الدول الواقعة في نطاق مبادرة "الحزام والطريق"، وتدعيم صلات المصالح التي تدعم تماسك جهود التنمية، وعبر رحلتنا لبناء "الحزام والطريق"، ينبغي أن نعمل على التوسعة المستمرة لمجالات التعاون وابتكار أساليب تعاون جديدة، بالإضافة إلى تسريع عجلة التعاون في مجال الطاقة، والتحليق بجناحي بناء البنية التحتية مع التسهيلات التجارية والاستثمارية، علاوة على الاستناد إلى مجالات التعاون الثلاثة المتميزة من طاقة نووية وفضاء وأقمار صناعية ومصادر الطاقة الجديدة. أكد محررو الكتاب أن "طريق الحرير" طريق للصداقة والتبادل والازدهار، وبنظرة بانورامية تاريخية نجد أن مسار تطور "طريق الحرير" مر بالكثير من الصعود والهبوط؛ لكنه استمر في التطور والاتساع ولم يتقهقر نهائيًّا، مقدمًا إسهامات ضخمة للجانبين الصيني والغربي: فأولًا: عمل "طريق الحرير" على ازدهار التبادل التجاري بين الجانبين الصيني والغربي، داعمًا وبقوة الازدهار المادي بين الجانبين الصيني والغربي خلال عملية التبادل والتواصل، ومعززًا تنقل الثروات والموارد والأفراد. وثانيًا: دعم "طريق الحرير" الاستقرار بين الأمم الواقعة في نطاقه؛ وذلك بسبب نمو التبادل التجاري بين هذه الأمم، وما أحدثه التبادل الثقافي في الوقت نفسه من تفاهم متبادل، فلم تنشأ صراعات وحروب واسعة المدى بين هذه الأمم؛ بل استمرت تنمية العلاقات والتمازج فيما بينها. وأخيرًا: إن "طريق الحرير" ليس مجرد طريق تجاري فحسب؛ بل إنه بمنزلة معبر ثقافي أيضًا، فقد خطت كل الحضارات على دربه وتركت بصمتها عليه، كما عمد جوهره الذي يتسم بالانفتاح الشمولي إلى تنمية التعددية الثقافية حول العالم وبناء منصة تبادل وتواصل ثقافي عالمي. ورأوا إن "بناء "الحزام والطريق" يوثق الروابط الاقتصادية للدول والمناطق الواقعة في نطاقها، ويعمق التعاون المتبادل، ويوسع أطر التنمية، ومن المنتظر أن تخطو الصين عبر عملية بناء "الحزام والطريق" تلك نحو تشكيل كيانات مشتركة على صعيد المصالح والمسؤوليات والمصائر، وستشق مستقبلًا جديدًا أفضل؛ وذلك يدًا بيد مع جميع الدول الواقعة في نطاق المبادرة، وبعد تحقيق الإطار الاستراتيجي للحزام والطريق، ستؤسس ممرات اقتصادية عابرة للقارات، هي الأطول والأكثر تمتعًا بإمكانات التنمية على الإطلاق، وإن معظم الدول الواقعة في نطاق المبادرة من الاقتصاديات الناشئة والدول النامية، ومن المنصف القول: إن مصائر هذه الدول لم تتضافر هكذا من قبل؛ سواء تأملنا الموقف من زاوية الاقتصاد التنموي وتحسين معيشة الشعب أو من زاوية الاستجابة للأزمة المالية وتسريع وتيرة التحول والارتقاء". وأكدوا أن الصين سوف تعزز استراتيجية التنمية المتبادلة المترابطة مع جميع الدول الواقعة في نطاق هذه المبادرة، وستدفع التدفق المنظم الحر للعوامل الاقتصادية إلى جانب دفع الترتيب للموارد بكفاءة والدمج العميق للأسواق، وإن تنفيذ الإطار الاستراتيجي للحزام والطريق سيحمل فرصًا وتحديات تاريخية للصين؛ وذلك من خلال "الانطلاق نحو الخارج" لاستثماراتها ومؤسساتها في الخارج. في السنوات الماضية، ارتفع المتوسط السنوي للتجارة بين الصين والدول الواقعة في نطاق المبادرة بنسبة 19%، كما ارتفع متوسط التجارة الخارجية الصينية في الفترة ذاتها بمعدل أربع نقاط في المائة، وزادت الاستثمارات المباشرة للمؤسسات الصينية في الدول الواقعة في نطاق الحزام الاقتصادي لطريق الحرير من 180 مليون دولار أميركي إلى 8 مليارات و600 مليون دولار أميركي، بزيادة سنوية متوسطها 54%؛ مما يبرهن وبقوة على تنامي الاستثمارات المشتركة والتعاون بين الطرفين. وكشف محررو الكتاب أن الصين سوف تواجه مع الدول الواقعة في نطاق المبادرة، الأخطار المشتركة على الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، بما يتناسب مع الآمال الجديدة الملقاة من المجتمع الدولي على عاتق الصين في الشأن الدولي، وستنفذ تحولًا كبيرًا على مستوى الآلية الديناميكية وأساليب التحرك الاقتصادي وسبل الإدارة الاقتصادية؛ وذلك بعد دخولها مرحلة "الوضع الجديد - حالة التموضع الطبيعية الجديدة"؛ مما يرسي أسس الكيان الاقتصادي الصيني ذي الديناميكية الشاملة والإمكانات الواعدة، وإن الصين تطمح لتشارك فرص التنمية مع الدول الواقعة في نطاق المبادرة، وإرضاء التطلعات الجديدة للعالم ككل خاصة هذه الدول، على أسس التنمية السلمية واستفادة كل الدول. وأكدوا إن بناء "الحزام والطريق" عملية نظامية خالصة، تستلزم التحلي بمبادئ النقاش والبناء المشترك وقيمة المشاركة ككل، والدعم الإيجابي للترابط المتبادل فيما يتعلق باستراتيجيات الدول الواقعة في نطاق المبادرة التنموية، وقد صاغت الحكومة الصينية "الرؤية والتحرك للدفع بالتشارك في بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين"، ونشرتهما ، عملًا على دفع مبادرة "الحزام والطريق" الكبرى، وبزوغ أشعة الشمس من جديد على "طريق الحرير" القديم، وتوثيق الصلات والروابط بين قارات آسيا وأوروبا وإفريقيا بسبل جديدة، والخطو بالتعاون وتبادل المنافع إلى قمم جديدة. محمد الحمامصي
مشاركة :