هم أبناء جيل «حماس» ممن شب في عهد قبضة هذه الحركة الإسلامية الحديدية. وهم الناجون من ثلاث حروب مع إسرائيل وحصار، ويرون أنهم من غير أفق ولا أمل. وفي دوائر كثيرة في غزة، يندر أن يقع المرء على شباب في العشرينات من العمر يعملون بوظيفة فعلية تدر عليهم راتباً شهرياً. ويسمي هؤلاء أنفسهم بالجيل المهدور أو المُبدَد أو الضائع. وتعيش غزة، اليوم، من طريق الاعتماد على نفسها وفتات مساعدات الحكومات الخارجية. فسبعة من عشرة أشخاص فيها يعتمدون على المساعدات الإنسانية. ولسان حال الشباب الشكوى من ضجر فتاك، ويقلقهم أن شطراً كبيراً من أصدقائهم يزدرد حبوباً مخدرة، ليست من طينة حبوب «إكستازي» بل هي حبوب مهدئة للحيوانات تهرب من سيناء. ويتناول الشباب جرعات كبيرة من مسكن الآلام «ترامادول»، ويدخنون الحشيش، فيشعرون بالخدر ويفقدون الإحساس. وزادت «حماس» أخيراً وتيرة إعدام مهربي المخدرات. وعلى رغم أن القيود على حرية الكلام تتعاظم، لا يتردد الشباب في الكلام، ولو كان صوتهم خافتاً. ويقولون إن قادتهم خذلوهم، وإن الإسرائيليين والمصريين يسحقونهم. وحين سؤالهم لماذا لا تثورون؟ يضحكون. فمن العسير الاقتراع على إسقاط حكومة، في وقت لا تنظم انتخابات. «لن أخفيك، لا نفعل شيئاً»، يقول بلال أبوصلاح، وهو شاب في الرابعة والعشرين من العمر حاز تدريباً في التمريض، ولكنه لم يجد عملاً في اختصاصه، فيبيع في بعض الأحيان ثياباً نسائية. وهو يرتدي سروال جينز يماشي الموضة، وعنده صفحة فايسبوك وخليوي، ولكنه لا يملك المال. ويقوم وأصدقاءه بأعمال صغيرة غير ثابتة، فيعملون ساعات قليلة هنا وهناك. فهم عملوا في مقاه في أمسيات رمضان المكتظة في حزيران (يونيو) الماضي. ويساعد واحدهم عمه أو خاله في متجر بيع أحذية. ويجنون 10 دولارات يومياً من مثل هذه الأعمال، ثمن القهوة والسجائر. «نحن جيل ينتظر»، يقول أبوصلاح. وسأل مراسلون شاباً حاز شهادة علاقات عامة عن عمله ومصدر قوْته. «أحدق في السماء»، أجاب ابن الخامسة والعشرين ربيعاً. ومياه المجارير تتقاذف على شواطئ غزة. وفي الأفق تبدو المياه زرقاء اللون حيث تتوارى مراكب إسرائيلية مسلحة تحكم طوق حصار الستة أميال. ولكن رغوة الأمواج بنية اللون. ويرى مغنو الراب في غزة أن لون المياه هو صورة مجازية: هم عالقون في غائطهم. وشطر كبير من شباب غزة لم يسبق له الخروج من القطاع، سواء عبر إسرائيل- وهذا شبه مستحيل- أو عبر معبر رفح الى مصر، المغلق في معظم الأعوام الأربعة الماضية. والتغذية بالتيار الكهربائي تقتصر على 4 ساعات يومياً. ورمي شباب في المخيمات تجرأوا على الاحتجاج على قطع الكهرباء، في السجون. وفي عالم غزة المغبر، ولون الاسمنت يطغى عليه، الشباب يزجون الوقت، يوماً بعد يوم، وهم يضغطون أزرار هواتهفم الخلوية، فعالمهم تقلص الى شاشة صغيرة مثل كف اليد يلجون بواسطتها عالم شرائط يوتيوب ودردشات لا تنتهي. والبطالة في وسط الشباب ترتفع الى حوالى 60 في المئة. وهي الأعلى في الشرق الأوسط، ومن الأسوأ في العالم. ويصف شباب غزة ما يعيشونه بالتجربة المريرة. ومحو الأمية في القطاع يفوق نظيره في الضفة الغربية، وتكاد الأمية تختفي في غزة، وتبلغ نسبة إجادة القراءة والكتابة 96.8 في المئة. وفي الماضي، كان «المهندس الفلسطيني» علماً على المهارة في الشرق الأوسط. وكانت الهجرة باباً مشرعاً على الحياة. ولكن الباب هذا أوصد وقليلاً من الفلسطينيين يغادرون غزة هذه الأيام. وعلى رغم أن فرص العمل ضئيلة أمام حملة الشهادات الجامعية، تخرج جامعات غزة الآلاف سنوياً. وتشير إحصاءات الرأي الى أن نصف سكان غزة سيغادرون إذا سنحت فرصة أمامهم. ويرفض محمد حميد (24 عاماً، درس في الجامعة السينما ويعمل أمسيات قليلة في الأسبوع في مقهى في مخيم لاجئين) نتيجة الإحصاء هذا. فهو يرى أن كل الشباب سيغادر إذا ما فتحت الأبواب. ويصف الاقتصاديون ما يجرى في غزة بعملية «نزع التنمية» أو العودة عن النمو والتطور. وشباب غزة يقولون مازحين الأمر نفسه. فالأصدقاء العاطلون من العمل يعلنون أنهم «يوجهون دفة الفراش»، أي يمضون النهار وهم منبطحون في الفراش. وقبل عامين، حذرت الأمم المتحدة من أن الحياة ستتعذر في غزة في 2020، ولكن مسؤولين أمميين يقولون اليوم إنهم أفرطوا في التفاؤل: الحياة قد تنهار في القطاع العام المقبل. وثمة جيوب خفية من الثراء في غزة وطبقة وسطى. والجامعات مليئة بطلاب يتوقون الى الالتحاق بصفوف الأثرياء. والجيل المبدد هذا شب على خطاب «حماس» عن المقاومة الفلسطينية ورسالتها الواعظة أخلاقياً عن التقوى ومعارضة إسرائيل. والخطاب هذا يبث في الجامعات ومخيمات صيفية عسكرية الطراز للأطفال والمراهقين الذين يدربون على تقديم إسعافات أولية ورمي القنابل. ولكن لسان حال شطر كبير ممن قابلناهم، وهم يرتدون سراويل جينز ممزقة نزولاً على الموضة وأحذية رياضية بيضاء نقية، هو «الكفاح من أجل عمل في تل أبيب وليس من أجل قتال الإسرائيليين». و «إذا فتحت الحدود، أحصل في دقيقة فحسب على عمل في إسرائيل». الكل مستعد للعمل في إسرائيل»، يقول إياد أبو حويلا، 24 عاماً، يحمل شهادة في تعليم الإنكليزية ويزجي وقته بالتسكع. «لم أحقق أي إنجازات. ولا يخفاني أن ما سأقوله سيئ، ولكنني في بعض الأحيان أتساءل عن فرص العمل كمترجم إذا وقعت حرب جديدة مع إسرائيل. وهذه فكرة مريضة. ولكنني أقولها لأظهر مدى إحباطنا. أريد عملاً، أريد مالاً، أريد أن أبدأ حياتي»، يشكو أبو حويلا. والحق يقال أن غزة سجن في الهواء الطلق، على رغم أن العبارة هذه مبتذلة، ولكن كثيرين هناك يشعرون بأن لا مفر من هذا المكان، وأن الجدران تطبق عليهم. فغزة يقتصر طول ساحلها على 24 ميلاً، وهذه أقصر من مسافة ماراتون (سباق)، أي ساعة من المشي. والقطاع مسور ببوابات إسرائيلية وكاميرات وأبراج مراقبة وأسلحة موجهة من بعد. وعلى الحدود المصرية، منطقة عازلة جرفتها جرافات، وصارت أرض بور لا يعيش فيها أنسي. وصيادو غزة تحاصرهم المراكب الإسرائيلية. * مراسلان، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 6/8/2017، إعداد منال نحاس.
مشاركة :