برحيل عبد الكريم غلاب تسقط ورقة أخرى من شجرة النخب المغربية، رجل اتخذ وطنه موضوعاً لنضالاته وكتاباته، فانتمى بإصرار إلى صوت الشعب وقضاياه، ومن دون أن يكل أو يمل أفنى عقوداً من الزمن وهو ينصب قلمه ليناقش ويعرف ويعترض ويجادل ويقترح. ولعل العمود الذي اشتهر به في جريدة «العلم» خير دليل على الخيار التاريخي الذي اختطه الراحل لنفسه، وأن تكون «مع الشعب» فهذا يعني الالتزام بقضاياه وأسئلته وشروط نهضته وتحرره. ناضل عبد الكريم غلاب من موقعه السياسي والأدبي من أجل بناء مجتمع حداثي يؤمن بالتقنية من دون أن يتنكر لهويته، والمجتمع الحداثي لا يمكن بناؤه إلا في ظل التحرر من الاستعمار، وهذا ما قاد الراحل إلى فضح أساليب الاستعمار عربياً ووطنيَا. وحينما استقل المغرب وجد عبد الكريم غلاب نفسه في قلب الجدل السياسي لينحاز إلى صوت الأمة من دون أن يقيم اعتباراً للصراع الدائر بين القوى السياسية. واليوم، لا نستطيع الحديث عن رمزية عبد الكريم غلاب بوصفه رائداً من رواد الأدب والثقافة المغربيين من دون ربطه بالخيار الإيجابي في الالتزام بقضايا الوطن سواء في كتاباته الإبداعية أو التاريخية أو الصحافية أو الفكرية، وهو ما بوأه ليكون واحدًا من القادة التاريخيين للمغرب ولحزب الاستقلال ولاتحاد كتاب المغرب خلال مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب الحديث. ومن موقعه السياسي والثقافي تابع أهم التحولات العميقة التي مر بها المغرب. يمثل الراحل قلماً لم يرتكن إلى حدود أجناسية معينة، بل عمل على هدم مقولاتها الصارمة انطلاقاًَ من تمثله صورة الأديب وفق التقاليد العربية والغربية، وهذا ما جعله ينشغل بإشكالات التحرر والتقدم والديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، ويخوض في أسئلة اللغة والفكر والعقيدة، ويبدع نصوصاً شكلت نقطة لبداية تشكل الكتابة السردية في المغرب: رواية وقصة وسيرة ذاتية، والانفتاح على أدب الرحلة، وفن التراجم، والسير، وكتابة المقالة والعمود الصحافي بما يتطلبه ذلك من إمكانات لتتبع معطيات الواقع ويومياته وحالاته وتحولاته. وقد نجح غلاب في تصوير تناقضات المجتمع المغربي الصارخة إبان مرحلة الاستقلال وما بعده، ولاسيما مع سطوة جيل خضع لربقة التقاليد البالية. والجيل الذي يمثله جيل توّاق للانعتاق والتحرر من إسار الماضي، وذلك عبر رؤية جمالية تترجم وعياً عميقاً بالهامشي. إنه واحد من الذين توحدوا مع سرودهم بحماسة صادقة، نحو رصد حركة مجتمعهم المحلي في لحظة حاسمة من تاريخه الحديث والمعاصر، بحيث شرعت الحداثة تكتسحه في عقر داره، فجعل ما هو أصيل وعتيق يصطدم بما هو دخيل وجديد. وقد تمكن غلاب من بسط مختلف تجليات المحلية بخصوصياتها المكونة لشخصية مجتمعه الضيق بيئيًا وحضارياً واجتماعيًا وسياسياً ونفسياً، لكن في مواجهة مأساوية مع نقائضه المصاحبة للاستعمار الغربي، وهو ما ميز أبنية نصوصه بنسقين أساسيين تهيكلا دوماً ضمن ثنائية الهدوء والاضطراب. وهذا ما دفعه إلى أن يدمج كثيراً من تصوراته الذهنية على لسان بطل روايته «دفنا الماضي» التي نادت بقيم التحرر بدل قيم العبودية والنخاسة، وهو ما كشفت عنه نهاية الرواية التي فتحت الطريق أمام جيل عاش المتناقضات، وعمل من منظوره الخاص على بث حركية جديدة داخل المجتمع من أجل حاضر آخر يمكن أن يكون حاملاً لكل الرؤى التنويرية التي كان يحلم بها، وبخاصة بعد عودة محمد الخامس من منفاه وإعلان الاستقلال. لتغدو نصوصه مركزية في مراحل التدريس الثانوية والجامعية سواء المغربية أو العربية، وتكون متناً مهماً عكف عليه عديد من الأكاديميين والنقاد والباحثين الذين فككوا بنياته السردية ومتخيله وجمالياته الأسلوبية في ضوء المناهج التي كانوا يتوسلون بها في دراساتهم. غادر الأديب المغربي عبد الكريم غلاب سفينة الحياة بعد ثمانٍ وتسعين سنة راكم فيها عدداً من الكتابات والدراسات التي توزعت بين ما هو إبداعي وتاريخي وصحافي ولساني وفكري، فضلاً عن انخراطه كمناضل في حزب الاستقلال المغربي، وقيادته لاتحاد كتاب المغرب خلال ستينات القرن الماضي ما أهلة ليكون واحداً من الرموز الجميلة في الثقافة المغربية، ومن رواياته «دفنا الماضي» (1968) و «المعلم علي» (1974) و «شروخ في المرايا» (1994)، و «عاد الزورق إلى النبع» (1988)، وفي السيرة الذاتية: «سبعة أبواب» التي يوثق فيها تجربته في سجون الاحتلال الفرنسي (1965)، و «سفر التكوين» (1997)، و «القاهرة تبوح بأسرارها» (2000)، و «الشيخوخة الظالمة» (1999)، وفي القصة القصيرة: «مات قرير العين» (1965)، و «الأرض حبيبتي» (1971)، و «أخرجها من الجنة» (1977). ولد الراحل عبد الكريم غلاب بفاس عام 1919، وتلقى تعليمه الأول في المدارس الحرة، ثم في كلية القرويين ابتداء من عام 1932. سافر بعد ذلك إلى القاهرة في أكتوبر عام 1937، فالتحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة (فؤاد الأول) عام 1940 وتخرج منها عام 1944 (قسم اللغة العربية). بدأ الفقيد في نشر كتاباته الأولى عام 1936؛ إذ كتب أول مقال في مجلة «الرسالة» القاهرية، واشتهر في الصحافة بعموده الشهير «مع الشعب» بجريدة «العلم». وقد خلف كاتبنا الراحل أزيد من 75 كتابًا في الرواية والقصة والأدب والسياسة والفقه الدستوري وتاريخ المغرب، وفاز بجائزة المغرب للكتاب في الآداب ثلاث مرات وأسس مكتب المغرب العربي للدفاع عن الحق في الاستقلال. وجه في الطليعة - نعى اتحاد كتاب المغرب الكاتب عبد الكريم غلاب رئيس الاتحاد الأسبق وجاء في بيان النعي: «تلقى اتحاد كتاب المغرب بأسى وحزن بالغين، نبأ وفاة رئيس الاتحاد الأسبق الأديب والصحافي والمؤرخ والسياسي المغربي الكبير عبد الكريم غلاب، عن عمر ناهز الـ 98 سنة. ولد الراحل في فاس سنة 1919، تلقى تعليمه الأول في المدارس الحرة، ثم في كلية القرويين ابتداء من سنة 1932. سافر إلى القاهرة في 1937، فالتحق بكلية الآداب - جامعة القاهرة (فؤاد الأول) سنة 1940 وتخرج منها سنة 1944 ( قسم اللغة العربية). بدأ نشر كتاباته الأولى عام 1936، و أول مقال له في مجلة «الرسالة» القاهرية. وواصل التأليف في مختلف الميادين الأدبية والثقافية والنقدية والسياسية والتاريخية، هو الذي اشتهر في الصحافة بعموده الشهير «مع الشعب» بجريدة «العلم». وأديبنا الكبير هو ثاني رئيس لاتحاد كتاب المغرب (1968-1976). خلّف كاتبنا اكثر من 75 كتاباً في الرواية والقصة والأدب والسياسة والفقه الدستوري وتاريخ المغرب. وفاز بجائزة المغرب للكتاب في الآداب ثلاث مرات عن رواياته: «دفنا الماضي» 1968 و «المعلم علي» 1974 و «شروخ في المرايا» 1994». كما نعى بيت الشعر في المغرب الكاتب الراحل عبد الكريم غلاب في بيان جاء فيه: «بكثير من الحزن والأسى، تلقّى بيتُ الشعر في المغرب نبأ وفاة الكاتب الكبير عبد الكريم غلاب، أحد الوجوه الأدبية والصحافية والسياسية البارزة التي طبعت ذاكرة - ووجدان - المغرب والمغاربة على السواء. فعِلاوة على مساهماته الأدبية في مجال الرواية والقصة، كان الفقيدُ في طليعة الوجوه التي أثرت الحركة الثقافية في بلادنا من خِلال ترأسِه اتحاد كتاب المغرب، ومُساهمته من هذا الموقع في خدمة الأدب والثقافة المغربية في مرحلة شديدة الحساسية من تاريخها. إنّ غياب غلاب، ليعُد خسارة كبيرة للحقل الثقافي والأدبي والإعلامي في بلادنا، فقد كان الفقيد من رجالات هذا الوطن الأبرار الذين ناضلوا من أجل تطوير الحياة الثقافية والفكرية والأدبية وجعلها في مستوى التطلعات الطموحة التي رسمها جيل الحركة الوطنية. ويسجّل للفقيد أنه خلال فترة إدارته جريدة «العلم» واكب بالرعاية والاهتمام الشعر المغربي».
مشاركة :