مشهد (1) لم أكن أعرفها من قبل، أول لقاء لي بها كان داخل دار الأوبرا المصرية، حين دلفت قاعة الاحتفالات الرئيسية في انتظار حفل عمر خيرت، القاعة شبه مظلمة، ألمح من بعيد سيدة تطمئن على حالة آلتها الضخمة ذات العدد اللانهائي من الأوتار تدور في فلكها كالفراشة، عيناها تلمعان بشدة تكاد تكون المصدر الوحيد للإضاءة في تلك القاعة، جميع أعضاء الأوركسترا قد غادروا المسرح بعد أن اطمأنوا على أدواتهم قبل الحفل إلا هذه السيدة فما زالت تطمئن على ذلك الهيكل الفرعوني العملاق، الذي لطالما رأيته مرسوماً على جدران المعابد، لم يتبقَّ سوى عدة دقائق على الحفل وها هي أخيراً قد قررت أن تغادر المسرح بعد الاطمئنان أَن كل شيء على ما يرام. مشهد (2) الجميع يأخذ مكانه استعداداً للحفل، أعضاء الفرقة والجمهور، وها هي تطل السيدة ذات العيون اللامعة مرة أخرى بزي أشبه بالزي التقليدي لسيدات واحة سيوة؛ لتجلس خلف آلتها الضخمة ليكتمل المشهد. مشهد (3) الحفل يبدأ، سمعت موسيقى عمر خيرت كثيراً، ولكنى لأول مرة أراها بعيني، أرى معجزة تُصنع على عيني، ما هذا الإعجاز الذي أراه وما هذا التوافق والتناغم بين كل هذا العدد الهائل من العازفين؟ حالة من الإبهار لم أرَها في حياتي من قبل، فجأة الأضواء تنحسر عن جميع أعضاء الفريق لتُسلط على تلك السيدة لتبدأ وصلة من العزف المنفرد على آلاتها، أشعر وكأنها انصهرت بل ذابت معها ليصبحا شيئاً واحداً، هي لا تعزف بأناملها الذهبية فقط، هي تعزف بجميع حواسها، أشعر أنني أمام غازلة ولكنها لا تغزل سجاداً، بل تغزل على جناح فراشة ضخم؛ لتخرج لنا لحناً مذهلاً يخطف القلوب، قشعريرة ما تنتشر في أرجاء الجسد بفعل صوت تلك الآلة الوترية، وما أن انتهت من عزفها المنفرد إلا وقد قام الجميع من على مقاعدهم تحيةً لها؛ لنبدأ وصلة من التصفيق الحاد، وها هو الموسيقار عمر خيرت يشاركنا التصفيق بعد أن قام بالإشارة إليها حتى ترد التحية للجمهور، هي لم تلحظ إشارته لها إلا متأخراً فقد كانت ما زالت منصهرة مع آلتها، ها وقد قامت متأخراً لعدة ثوان من على مقعدها؛ لترد التحية لجمهورها وملامح وجهها محملة بمشاعر مختلطة بين شكر وسعادة وخجل واعتذار على أنها تأخرت لثوان في القيام لتحية الجمهور وكتقليد أوبرالي متبع أشار إليها الموسيقار عمر خيرت ليعرفنا بها قائلاً عبر الميكروفون: د. منال محيي الدين - عازفة الهارب. ها أخيراً وقد عرفت اسمها، علق الاسم بذهني وصرت أردده عدة مرات حتى لا أنساه، من الآن سأبحث عن كل أعمال تلك السيدة، لعلّى أَجِد صفحتها الشخصية على الفيسبوك لأتباع أنشطتها وربمّا حفلاتها القادمة، فمن الآن أنا من جمهورها بعد أن وقعت في غرام تلك الآلة الساحرة بفعل الأنامل الذهبية لتلك السيدة ذات الملامح الشرقية والعيون اللامعة. مشهد (4) أتصفح الفيسبوك كعادتي يومياً، لأرى منشوراً على صفحتها الشخصية يعلن عن "ريسيتال د. منال محيي الدين بقصر المانسترلي بالمنيل". جهلي الموسيقي جعلني أبحث عن معنى كلمة "ريسيتال" لأجد أن معناه عرض موسيقي (غنائي أو آلي) بطله عازف واحد. جهلي بالتاريخ أيضاً جعلني أبحث عن تاريخ تلك القصر لأجد أنه مجموعة بنائية قام بإنشائها حسن فؤاد المانسترلي باشا في عام 1851 ميلادياً والذي يرجع موطنه إلى مانستر بمقدونيا. إذاً فأنا على موعد مع حفل يمتزج به أرقى أنواع الفنون بعبق التاريخ في مكان واحد، إذاً فهي فرصة لن تتكرر كثيراً وليس لي أن أفوتها، فالفرصة سنحت بأن أتأمل تلك الآلة النادرة مرة أخرى عن قرب. مشهد (5) دلفت بوابات قصر المانسترلي بعد أن اشتريت تذكرة الحفل، قمت بأخذ جولة بين بنايات القصر قبل الحفل، تكاد الأبنية تبكي حالها التي وصلت إليه بفعل الإهمال الشديد، كل أبنية القصر تتنفس التراب، الإهمال سيد المكان، القصر في حالة يرثى لها، أسأل مرة أخرى أفراد الأمن: هل هذا القصر مؤهل لحفل الليلة؟ ليؤكد أحد المنظمين أنه بالفعل سيبدأ الحفل بعد ساعة من الآن وقد أشار للقاعة التي ستستضيف حفل الليلة. دلفت القاعة دون أن يسألني عن هويتي أو يطّلع على تذكرة الدخول - يبدو أنها علامة على هشاشة التنظيم - القاعة عبارة عن تخت صغير يدور في فلكه مجموعة من المقاعد المتهالكة. أنا الشخص الوحيد المتواجد في القاعة، الفرقه منشغلة في البروفات، جو من البهجة يسود المكان فأحد أعضاء الفرقة يعزف لحن تتر المسلسل الشهير "بكيزة وزغلول" المبهج، أتأمل المشهد في صمت وأرى د. منال محيي الدين تشد من أزر كل أعضاء الفريق وبالتحديد مجموعة من الشباب الصغير الذي لم تتجاوز أعمارهم العشرين عاماً. اخترت مكاناً استرتيجياً حتى يتسنى لي رؤية المشهد دون أي معوقات. فجأة التوتر يسود المكان، مشادات كلامية بين د. منال محيي الدين ومنظمي الحفل، فلا يوجد مكان صالح للاستخدام الآدمي داخل القاعة لاستخدامه لتغيير الملابس فالمكان بحالة يرثى لها والمراحيض بحالة بائسة، حاول أحد مرافقيها احتواء الموقف، هدأت قليلاً بعد أن أحست أن انفعالها كان كبيراً، استدارت للخلف لتنظر لي وتسألني: "أنت من الجمهور"؟ كان ذلك أول حديث دائر بيني وبينها. كم تمنيت أن تبتلعني الأرض في تلك الأثناء، أدركت مغزى هذا السؤال سريعاً، فهي قد استشعرت الحرج من أن صورتها وتلك المشادة الكلامية قد شاهدها أحد من جمهورها فخشيت أن تهتز صورتها أمامهم بعد ذلك الموقف. لا أريد أن أكون سبباً في استشعارها بالحرج فلم يبقَ على الحفل سوى بضع دقائق فلا أريد أن أكون سبباً في توتر آخر لها. أجبتها كاذباً: لا لست من الجمهور لأغادر بعدها القاعة سريعاً، هي لا تعلم أن حظها العِثر أوقعها في مُدون سيوثق تلك اللحظة، هي لا تعلم أيضاً أن صورتها التي رسمتها لها لم ولن تهتز ولو كنت مكانها لكان رد فعلي أعنف من ذلك لما آل له حال القصر من الإهمال كحال كل المرافق الحكومية في ذلك الوطن، أظن صراخها المتعالي لم يكن بسبب حالة الغرفة وسوء التنظيم فحسب، بل لحزنها على وطنها المتمثل في الحالة التي وصل لها ذلك القصر العريق. مشهد (6) الجميع دلف إلى القاعة في الموعد المحدد للحفل، أسمع الموسيقى من خارج القاعة، أتسلل لأجلس على مقعد في نهاية القاعة متجنباً أن تتلاقى أعيننا ببعض، وها هي القاعة ذات الإضاءة الخافتة تضيء مرة أخرى بفعل تلك العيون اللامعة وبفعل الموسيقى الساحرة التي تطلقها أناملها الذهبية، انصهرت مرة أخرى بآلاتها وكأن شيئاً لم يكن، أحمد الله أن الحفل قد نجح بعد كل تلك المعوقات وسوء التنظيم، أرى وجهاً وقد ارتسمت عليه ابتسامة الرضا، الجميع يتبارى لالتقاط الصور التذكارية معها، أظن أن جميع الحاضرين قد التقطوا صوراً تذكارية معها عدا شخص كاذب وحيد يقبع في زاوية بعيدة بعد أن أنكر أنه من جمهورها. كم أعتذر لكِ بشدة على تلك الكذبة، فأنا من جمهورك المتيم بذلك الفن النادر الذي تقدمينه لنا رغم كل تلك العراقيل التي تلاقينها وكل فنان حقيقي في ذلك الوطن الحزين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :