لي مع الطفولة ذكريات كثيرة وجميلة حتى تلك التي حزنت وقتها وبكيت عندما أستعيدها أشعر بالضحك ونوع من السعادة إذ تدوم ابتسامتها فترة طويلة حتى يدخل أحد من الأسرة فتتلاشى باقية ظلها.. وخاصة مع قرب العيد. من تلك الذكريات، أنه كانت سيدة عجوز فقيرة جدا عمياء، تقيم في منزل خرابة بمعنى الكلمة، بين بيتنا وبيتها ثلاثة شوارع (تسمية مجازية) تعودت يومياً الذهاب لها في صحن الغداء، وعندما يكون لدينا فاكهة من جنوب العراق أو برتقال بعقوبة، رمان وغيره وأحياناً طروح وهو نوع من أنواع القثاء. كنت أكره رائحة بيتها ولكني أجبر نفسي على تقريب شيء لها، حتى لا يقال إني بلا قلب، كما تدعي أمي، أنشب بصراعات مع بنات الجيران بطريقي.. بالإضافة لكونها عمياء هي "محرولة" وكلمة "محرولة" هي لفظة شعبية، تعني لا تستطيع الحركة وتعني تصلب الركبتين، وتقول جدتي إنها لم تبر بوالديها، وتحذرنا من أن نكون مثلها،ل يس باستطاعتها المشي وهي لا تعاني من شلل ولكن من جفاف ركبتيها، المهم في الحكاية إنه في صباح يوم عيد حملت لها أكلة العيد عادة تطبخ فجرية العيد وتقدم بعد صلاة العيد، عبارة عن رز لذيذ جدا تغطيه لحمة عملت جدتي على اختيارها خالية من العظم سهلة الأكل، تفوح رائحة الزعفران والهيل من الصحن، يكللها الحشو الذي هو عبارة عن بصل محموس مع حمص وكشمش، والكشمش أظنها كلمة إيرانية، وهو الزبيب تعمدت استعمال الكلمة حتى أحس بوقعها الآن أخذت الأكل لها والحمد لله أنني كنت شبعى، وإلا مددت يدي المحناة للأكل منه.. أوصلت الأكل، وفرحت كثيرا وتناولت صراراً وسلمتني أياه، قائلة هذه عيديتك، حقاً ترددت في البداية، لكن ثقل الصرار أغراني.. حسبت العيدية في الصرار القذر ذو الرائحة النتنة، كان ديناراً،عبارة عن عشرات وخمسات وخمسينات، من الفلوس المعدنية، مؤكد أنه قد منَّ عليها به بعض زوارها. وتلك ثروة لم أحلم بها، كانت عيادينا لا تتجاوز المئة فلس إلا في أحوال نادرة، ومن عمي رحمه الله.. وإلا عشرة فلوش أوعشرين غالبا. ثروة كبيرة، وهي فاضحة إن صرفتها في حينها، وإن أبلغت أمي سيحل علي غضب وتطلب مني إرجاعها.. هداني تفكيري الصغير إلى تخبئتها، وكتفكير اللصوص، رحت أبحث حتى وجدت جداراً في بيت خراب تعشش البوم فيه، وهو أطلال بيت خرب يُسكن شهرا من قبل بعض العرب العراقيين القادمين لقضاء بضع وقتهم ويغادرون.. هناك بركة يتجمع بها السيل بها نخلتان هرمتان، وتنعق البوم ليلا فيه، فتخوفنا جدتي منها ومنذ ذلك الحين وأنا أكره البوم وأخشاه، رغم كل ما قرأت عنه، أعود لقصتي مع الفلوس، أخرجت حجرا ووضعت النقود ثم أعدته. على أن أصرفها ما بين وقت وآخر لأن هذا المبلغ ثروة ستنكشف، وبدأت محاولتي الأولى قارورة ببسي، وعلبة كيت كات، ذايبة سايحة الشوكلا منها ياللنعمة الكبيرة.. ولكن بانت النعمة، بانت وظهرت كما تظهر الشمس، وحل الغضب بأمي علي، غضب من نار استعرت في قلبها ورهبة ما ظننت أن عيدية ستشعلها، ورفعت العصاة اعترفت قبيل أن تهوى، إنها من السيدة العجوز.. وأيضا لم أسلم من بعض لشطات العصا، فكيف قبلت أن آخذ من عجوز مسكينة عمياء، وانهالت علي الألقاب المميزة من الوزن الثقيل جداً.. مع شعوري أن أمي ارتاحت لذلك ربما مما أصابها من رعب أن تلك الحلوى ربما ظنت هي من خدمة عملتها لإحدى البنيات، أو أحد قد ضحك علي فترجف السماء وتخسف الأرض.. ولكني دائما وأبدا أذكى من أن يضحك علي.. والمهم عندما أتذكر هذه الحادثة أمتلئ ابتسامات، على منظري، عقلي اثبتها بشريط لا يريد محوه.. وأحكيها لصديقاتي فنتشارك الضحكات.. هي الذكريات تنهال، عندما نريد الهروب من الواقع، ومع قرب العيد ستكون الذكريات أكثر جمالاً. وسلامتكم.
مشاركة :