أيام طويلة كاد أن يجف فيها مدادي، تكلمت عن الحلم العربي في إنشاء منظومة بحرية تقوم على فكرة المصالح المتكاملة بين كافة الدول العربية من المحيط إلى الخليج. وأفرطت في الحلم حين تخيلت أنه من الممكن تأسيس شبكة سكك حديدية تربط بين الموانىء البحرية العربية، تخفض من بنود التكلفة وتدشّن المشروعات العملاقة. وأفرطت في الحلم أيضاً حين تخيّلت أنه لدينا المقدرة على نكران الذات، وتحقيق أحلام الشعوب العربية، من خلال دمج تجاري واقتصادي قائم على المصلحة الاقتصادية، وتأسيساً على التنوع المذهل للثروات العربية، ولكن هيهات فقد بات ما يفرقنا أكثر مما يجمعنا. لقد أفسدت السياسة الحلم العربي، وحولت المصالح إلى كابوس مزعج، كما جعلت أتفه الأمور للمواطن البسيط تتعارض مع فكر الأنظمة، ولا يمكننا أن نصادر على حاكم ما في اتخاذ ما يراه مناسباً لمصلحة بلاده، ولكن دون الإضرار بالغير. إن سيادة الدول لا تتحقق بالإصرار على توجهات تضر بالغير... فقد سبق ورأينا منذ نحو 3 عقود كيف أسقط صدام حسين بلاد الرافدين بعناده واعتدائه على جارته الكويت، وأصر على الدخول في الحائط، وفي النهاية ضاع وأضاع معه شعب كبير ووطن من أقطاب الحضارات، بينما ينتظر أعداؤنا دائماً سقطاتنا لينقضوا علينا كفريسة وقد تم! إن التخبط الذي يحدث في الملاحة البحرية العربية والخليجية بات مضراً كونه يعتمد فقط على اللا منظومة، فلا تسعير للخدمات ولا مواعيد يمكن الارتباط بها ولا آلية أو عملاً مؤسسياً يمكن الاستناد إليه، وكلما تذكرت كم كنت أحلم بمنظومة نقل عربية صرت ابتهل إلى الله بأن يحفظ لنا ما وصلنا إليه. فكما كنت كأحد مواطني الحلم العربي، أحلم باتحاد ولايات عربية، صرت أحلم بالمحافظة على بلداننا فقط من تفتيت أكثر، فقد كشفت الأزمة الخليجية الأخيرة مدى هشاشة المنظومة البحرية، وعدم وجود الحلول والبدائل، والاعتماد فقط على الإمكانات الشخصية واللحظية، فلا خط ملاحياً منتظماً يمكنه تقديم الحلول، ولا شبكة خدمات لوجستية تستطيع اقتحام تلك الصعاب، إنما فقط تكون فرصة لكل من يستطيع القفز وتحقيق بعض المكاسب. فالاستثمارات في النقل البحري أمر يصعب على القطاع الأهلي، وتشغيل خط ملاحي صغير بحجم بضائع يقل عن المنفعة الحدية لا يتصدى له مستثمر، إنما يحتاج إلى حكومات يهمها فقط شعوبها، وهذا العوار قد اتضح، ولا تتوقعوا أن يمد مستثمر يده للإنفاق من جيبه على أخطاء الحكومات وإنقاذ الشعوب. * باحث في اقتصاديات النقل البحري (edkw@egcss.com)