عبير زيتون (رأس الخيمة) «لديَّ حلم أن أصبح كاتباً» عبارة قالها الروائي البرتغالي العظيم «جوزيه ساراماغو» في «التاسعة عشرة من عمره، وانتظر حتى أصبح في الخامسة والخمسين من عمره لكي ينضج حلمه، ويصدق بأن لديه شيئاً يستحق أن يقوله فعلاً، وعندما كان يُسأل كيف أدركت هذه النقطة كان جوابه الوحيد «أنا لا أكتب فحسب، بل أكتب ما أنا عليه». إذا كان ثمة سرّ في المسألة، فذلك هو على الأرجح، ومن بعدها توالت نجاحاته التي لم تتوقف حتى بعد وفاته مع رواياته التي توّجته كأحد أكثر الأصوات فرادةً في الرواية المعاصرة، وأحد أشرس المدافعين عن فكرة العدالة الإنسانية في عصرنا الراهن. كان جوزيه دي سوسا (اسمه الحقيقي) «أول برتغاليّ ينال جائزة نوبل للآداب عن روايته «العمى» العام 1998، وذلك تقديراً لمجمل أعماله الروائية التي حملت في مجملها «نظرة المثقف الكوني» المشغول بالبحث عن إنسانية الإنسان، ببعديها الفردي والجماعي، بأسلوبه الكتابي المميز بالفنتازية والواقعية المسكونة بالرمز الدلالي الزئبقي، والخيال المتبصر، والسخرية الفاتنة، جعلت من الناقد الأميركي «هارلود بلوم» يصفه بأنه «ليس واحداً من أفضل الروائيين وحسب، بل أحد العبقريات القليلة بين الأحياء في عالم اليوم». من الصعب فهم عالم الحكايات في أدب صاحب روايات «العمى» «والبصيرة» و«الكهف» وولعه بالفكاهة والسخرية دون المرور بسيرة حياته التي تُشبه في بعض جوانبها سيرة الكاتب الروسي الشهير «مكسيم غوركي» من حيث قسوة العيش، والمعاناة، والتنقل القسري بين أعمال كثيرة مثل صناعة الأقفال والحدَادة والترجمة والرسم الصناعي والتحرير والتدقيق اللغوي، وعدم القدرة على التحصيل الدراسي لفقره، والمشي حافياً أربعة عشر عاماً في الريف البرتغالي يرعى الماشية، ويحتطب للجد والجدة، والاختلاط مع الفقراء والريفيين بكل معاناتهم ودروبهم الضيقة، وهو القادم إلى هذا العالم العام 1922 من قرية «أزينهاجا» الصغيرة وسط البرتغال، لأبوين أميين فقيرين يعملان في حقول الآخرين، حيث الفقر والعمل لم يترك للناس غير الجلوس في المساء ورواية الحكايات. صدرت روايته الأولى «أرض الإثم» العام 1947، إلا أنه لم يجد ناشراً لروايته الثانية «المنور» التي لم ترَ النور إلا بعد رحيله العام «2010» بثلاثة أعوام، فصمت نحو عشرين عاماً حتى أصدر «ساراماغو» مجموعة شعرية بعنوان «القصائد الممكنة»، ثم مضت عشر سنين إضافية من الصمت قبل أن يكرِّس نفسه كلياً للكتابة، وكان قد أصبح في عمر الخامسة والخمسين». ماذا كنت تفعل طوال ذلك الوقت «يا ساراماغو.. هل كنت تنتظر؟». يجيب «ساراماغو»: «لا»، الانتظار لا يجدي؟ كيف يمكن أن نعرف ما إذا كان ذلك المنتظَر سيأتي يوماً؟ جلَّ ما في الأمر هو أني نهضت في أحد الصباحات وقلت لنفسي: لقد حان الوقت لكي تكتشف ما إذا كنتَ قادراً على أن تكون ما تزعم أنه حقيقتك، أي كاتباً». شهد خطاب «ساراماغو» الروائي منعطفاً حاسماً مع رواية «العمى» وما تبعها من أعمال مثل «كل الأسماء»، و«الآخر مثلي»، و«قابين، و«مسيرة الفيل»، والتي كشفت عن رؤاه الفلسفية والفكرية في قلقها على مصير البشرية وهي تتخبط في واقعها المادي اليومي المزري، حيث القيم الإنسانية إما تختفي أو يُداس عليها بوحشية أكبر يوماً بعد يوم. في رائعته رواية «العمى» مدينة كاملة تسقط فجأة في فوضى «العماء الأبيض» لا أحد يعرف أين تقع تلك المدينة، لا الفيلم الرائع الذي أخرجه المخرج البرازيلي «فرناندو ميريليس» يقول لنا ذلك، ولا الرواية، في إسقاط رمزي ينتقد فيه «ساراماغو» ما وصل إليه مجتمع العولمة اليوم حيث البشر لا يرون مع فلتان المنطق، وغياب العقل، واستشراء النزعة الاستهلاكية، وانتشار الفوضى في التعامل مع الطبيعة، وهذا ما تخلص نهاية الرواية إليه بالقول: «لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يَرون، بشر عميان يستطيعون أن يَروا لكنهم لا يَرون».
مشاركة :