بوابة محفوظ عبد الرحمن

  • 8/20/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عبد الله السناوي بقدر اقتراب الأدب من الأحداث الفارقة، التي غيرت وجه التاريخ، بلا تدليس في وقائعها، أو تجهيل بروح عصرها، يكتسب قيمته وتأثيره على الذاكرة العامة جيلاً بعد آخر.قد يساعد هذا النوع من الأدب في شرح نظريات الأمن القومي دون ادعاء وبأبسط لغة ممكنة.لا كهنوت في الأدب ولا حواجز تمنع الفهم العام مثل تلك التي يصطنعها دون مقتضى أغلب الذين يتناولون قضايا الأمن القومي، كأنها أسرار خلف أبواب مغلقة يقف عليها حراس وحجاب.وقد كان عمل المؤلف والسيناريست محفوظ عبد الرحمن «بوابة الحلواني» اقتراباً درامياً نادراً بلا كهنوت وحواجز من جوهر نظرية الأمن القومي في مصر.نظريات الأمن القومي لا تخترع ولا تنشأ من فراغ، فحقائق التاريخ تصوغها فوق خرائط الجغرافيا.رغم أن محفوظ لم يشر أبداً إلى أسبابه في اختيار اسم ذلك المسلسل التلفزيوني، فإنه لا يصعب على المشاهد العادي استنتاج قصده.فقد اعتاد المصريون لقرون طويلة على القول إن «الذي بنى مصر كان في الأصل حلوانياً»، وكان ذلك نوعاً من الولع بالوطن ومواطن الجمال فيه، رغم كل ما اعترضه من محن وشدائد وغزوات جاءت أغلبها من الشرق.بنفس الروح وصفوا عاصمتهم القاهرة ب«المحروسة» اعتقاداً بأن كل احتلال ينقضي وكل غزو يهزم بالنهاية، وأنها قادرة على هضم وتمصير كل الثقافات والحضارات التي مرت بالسلاح فوقها.كما كانوا يطلقون حتى أوقات قريبة على العاصمة اسم «مصر»، كأنها تلخص البلد كله وترمز إليه وحدها.في ذلك شيء من إرث مصر القديمة الذي تحفظه البرديات: «الكل في واحد».«بوابة الحلواني» هي ذاتها «بوابة الحياة».التعبير الأول ينصرف إلى مصر مباشرة عند حدودها الشرقية في سيناء، والكلام داخل في صلب نظرية الأمن القومي.تاريخياً المصير المصري تعلق صعوداً وسقوطاً بالحروب والغزوات التي تعبر تلك الحدود.إذا ما هزمت انكفأت على جراحها، تنهب مواردها ويستبد بشعبها.وإذا ما نهضت تكتسب مهابتها في جوارها.والتعبير الثاني يضيف ويشرح ارتباط الأمن القومي بقضية الحياة نفسها، وأن إرادة المقاومة هي ذاتها قصة مصر المتألمة، التي تبحث عن أمل وتحن لأيام عزتها حين «نطوي الآنين بالحنين».وقد كان حفر «قناة السويس» حدثاً تاريخياً محورياً في التاريخ المصري بات بعده البلد مرهوناً بالكامل لصراعات النفوذ والمصالح الكبرى.عندما علت أسواط السخرة منتصف القرن التاسع عشر فوق ظهور مئات ألوف الفلاحين عند حفرها ولقي أغلبهم حتفه كانت الامبراطوريتان الفرنسية والبريطانية تتنازعان الجوائز، وامتدت المحنة حتى تأميم القناة عام ١٩٥٦.يكاد «بوابة الحلواني» أن يكون الاقتراب الدرامي الوحيد من ذلك الحدث الحاسم في التاريخ المصري الحديث.لم تستغرقه أية أحكام مطلقة ولا غابت عنه روح الإنصاف لعصر الخديوي «إسماعيل»، الذي شهد طفرة عمرانية وتطوراً في وسائل الحياة والتمدن.ولعله العمل الأدبي والفني الوحيد، الذي أنصف عصر «إسماعيل»، رغم أن مؤلفه ينتمي بفكره إلى تجربة 23 يوليو، التي أسقطت حكم أسرة محمد علي.كانت قناة السويس محور العمل بلا منازع، الذي تدور حوله صراعات ومصائر أبطاله.وقد أضفى بطولة إضافية على قرية نائية مجهولة اسمها «الفرما» أصبح اسمها فيما بعد «بورسعيد».بطولة «الفرما» هي تعبير درامي وتاريخي عن حجم التحول في اعتبارات الأمن القومي بعد حفر قناة السويس.لقرون طويلة كانت الجيوش المصرية تعسكر في منطقة الصالحية على تخوم محافظة الشرقية؛ حيث نهاية العمران.إذا ما سقطت الصالحية تحت ضربات أية قوات غازية تكون القاهرة قد سقطت في نفس اللحظة، وإذا ما تحركت الجيوش من معسكراتها في اتجاه الشرق فالتاريخ يأخذ مساراً آخر.في عمل درامي سابق ل«محفوظ» استلهم من التاريخ المصري قصة للصديقين اللدودين، وكلاهما حكم مصر على التوالي، «سيف الدين قطز» و«الظاهر بيبرس».في طريق عودة الجيش المنتصر على المغول بعد معركة «عين جالوت» اغتيل «قطز» بتدبير من «بيبرس».في مونولوج طويل فيه حب ومقت، إعجاب وكراهية، ولاء وانتقام، أخذ «بيبرس» يرثي صديقه الذي قتله للتو في رائعة «الكتابة على لحم يحترق».أي لحم هذا الذي يحترق؟إنه لحمنا نحن والكتابة عليه تعلم بقدر ما تجرح وتلهم بحجم ما نستوعب.بنفس الروح كتب سيناريو فيلم «ناصر 56» كأنه استطراد ل«بوابة الحلواني».فالقصة واحدة ومتصلة بوجوه جديدة وأبطال جدد.لم يكن تأميم القناة محض قرار للرئيس الشاب جمال عبد الناصر بقدر ما كان رد اعتبار للوطنية المصرية التي أهينت واستبيحت ممن كان يطلق عليهم أصحاب المصالح.أي تأويل آخر لا يعرف شيئاً عن عمق الجرح المصري، والتجهيل بالتاريخ يضرب في جذور الأمن القومي.لهذا السبب تدفقت على بورسعيد قوافل المتطوعين، حملوا السلاح وواجهوا العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي «الإسرائيلي»، وبدا أن مصر تغيرت وتوشك أن تدخل عصراً جديداً.حسابات الأوطان غير حسابات البقالة، الأولى تضع نصب عينها اعتبارات الأمن القومي وقد كان التأميم قضية بلد صغير استقل حديثاً يطلب الحرية والكرامة، والثانية لا تعرف غير لغة الربح والخسارة.بقدر المبادرة والاستعداد لدفع الأثمان خرجت مصر من السويس دولة كبرى مؤثرة بعمق في عالمها العربي وقارتها الإفريقية والعالم الثالث.هكذا نظر الأديب الكبير محفوظ عبد الرحمن، الذي يرقد الآن في غرفة عناية فائقة تحوطه قلوب الذين يعرفون فضله، إلى أعقد مسائل الأمن القومي، التي هي «بوابة الحلواني»، أو «بوابة الحياة».

مشاركة :