< حين فرغت من قراءة هذه السيرة الممتعة الملهمة، وقد عقدت العزم على الإشارة إليها في هذا المكان، لعل نفساً طموحة تستلهم منها ما يزيدها حماسةً وإصراراً على النجاح، سألت نفسي: من أين نبدأ؟ فكل «المحطات» تدفع لاختيارها بداية، وكل مرحلة من حياة هذا «الإنسان» تعطي الدرس والعبرة وتشحذ الهمم، وتفتح أبواباً لا نهاية لها من الأمل على طريق تذليل الصعاب وتحقيق الأهداف ومقاومة المغريات ومواجهة الضغوط، ليبقى الضمير حياً يقظاً موازناً ما بين حظوظ النفس وحقوق المجتمع وواجبات الوطن. إنها خلاصة تجربة 70 عاماً في «حكاية» عذبة تتقطع الأنفاس لمتابعة فصولها، منذ الخطوات الأولى لطفولة الندرة وفتوة الطموح ورجولة الإنجاز، حكاية طفل من بلادي بلغ التاسعة ولم يعرف الحذاء وهو يركض خلف قطيع الأغنام في صحراء الدهناء، يصطاد السحالي ويأكل لحم الذئاب (بلغ الـ80 وما تزال ملوحة لحمها في ذاكرته)، كتبه «الشمس الحارقة والقمر المنير والنجوم المتلألئة.. ومدرسته مجالس السمر حول النار».. لم يعرف من شبكات التواصل الاجتماعي إلا «الأحاديث مع الأغراب عند واحات النخيل أو ميادين المدن الساحلية وأسواقها»، هذا الطفل هو «علي النعيمي» الذي أصبح وزيراً للبترول والثروة المعدنية لـ20 عاماً. ومما يلفت نظر قارئ هذه السيرة الشيقة تلك «الثقة المطمئنة» المطلة من ثنايا الحكاية، إذ تشعرك بالصدق والاعتزاز وهو يروي زواج والدته، ولم تبلغ الـ14، وطلاقها من والده وهي حامل به، ووصفها بأنها «امرأة بدينة لطيفة المعشر لا يتجاوز طولها متراً ونصف المتر». هذه الشفافية و«النفَس الإنساني» والاعتزاز بالانتماء وتقدير الموروث تجلت في مراحل أخرى، حين كشفت عن احترام صاحبها لثقافة الشعوب الأخرى والدعوة إلى التعرف عليها والنظر إليها «مدخلاً» طبيعياً يوفر وقتاً وجهداً لفهم متطلبات الشراكة في كل مجالات الحياة. وسيرة الطفل البدوي و«الساعي» والمهندس الجيولوجي ورئيس أضخم شركة نفطية عالمية ووزير البترول والثروة المعدنية في بلد يعد أكبر منتج للطاقة الأحفورية، ليست «سيرة ذاتية» منفصلة عن تفاعلات واقعها وما أحدثه النفط في حياة أهلها ومحيطها وعلاقاتها الخارجية، بل هي «لقطة» في فيلم شيق يروي حكاية تطور بلد ناهض شكل النفط عصب نهضته، ففي الوقت الذي كان هذا الطفل يركض خلف نعاجه ويطارد خرفانه خوفاً عليها من الذئاب، «فتح الملك عبدالعزيز (يرحمه الله) بيده الصمام الذي ضخ أول شحنة نفط سعودي إلى الناقلة الراسية في مرفأ رأس تنورة، كانت لفة رمزية بالغة الأهمية، فقد سجلت هذه الحادثة أول اتصال تجاري مؤثر بين المملكة الفتية والعالم الخارجي». وفي حكاية صبي صغير السن، ضئيل الجسم قليل المعرفة، تحركه نوازع الحاجة وتدفعه طاقة الطموح نقرأ شيئاً عن واقع تعليم أبناء البادية وظروف معيشة العمال السعوديين في شركة «أرامكو» بعد الحرب العالمية الثانية، ولوائح التوظيف التي أدت إلى فصله من العمل لأنه لم يبلغ السن القانونية (الـ18) وخسارته راتباً كبيراً، 90 ريالاً! وكيف تغلب على اليأس وشرع في البحث عن عمل يساعده على إعالة أسرته، وتكرار الفصل لصغر السن، ثم قصته مع الطبيب الذي طلب منه «خلع ملابسه» ليمنحه شهادة تثبت أنه بلغ الـ18. وفي مسيرة كل إنسان هناك نماذج بشرية يسوقها القدر، فتترك أثرها الطيب في حياته وتعينه على تجاوز ما يعترضه من مشكلات، وترشده إلى ما يمهد له الطريق، وفي سيرة هذا الطفل «الرجل» شخصيات ونماذج إنسانية أثرت في حياته، وإن بدرجات متفاوتة، يحفظ لها الود والعهد لأنها ساندته لتكبر طموحاته ويزداد إصراره ويقوى عزمه على تجاوز الإخفاقات. ومن تلك الإخفاقات «الطريفة» أنه ترشح، بعد أن تحسنت لغته الإنكليزية، ضمن أول دفعة من الموظفين السعوديين للسفر إلى نيويورك في مهمة تعليم اللغة العربية لموظفي «أرامكو» المرشحين للعمل في المملكة العربية السعودية، لكن رئيس قسم التعليم في الشركة رأى أنه «صغير جداً على العمل في الولايات المتحدة»، ولم يكتفِ بتلك الإشارة المحبطة، بل رسم خطاً على الجدار وقال للشاب الطموح ضئيل الجسم «عندما تصبح بهذا الطول سنرسلك»، ويعلق صاحب السيرة بعد عشرات السنين: «وحتى يومنا هذا لم يبلغ طولي ذلك الخط»، ولكن، لا الطول ولا ضآلة الجسم بقادرين على إضعاف ما في النفوس التوَّاقة من تطلعات تسعفها القدرات ويحدوها الأمل، فقد «ابتسم الحظ» لضئيل الجسم، وصدرت الموافقة على الدراسة الصيفية في الجامعة الأميركية في بيروت لتفتح الباب، واسعاً، لمواصلة الدراسة الجامعية والعليا في الولايات المتحدة الأميركية، ثم الترقي في الوظيفة، حتى الجلوس على كرسي الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية. وهذه السيرة الذاتية «معرض» لدروس ثمينة في فن قيادة الناس وتنوع أساليب التفاوض وحسن التعامل مع الثقافات المختلفة لإذابة الحواجز وإزالة الشكوك وبناء الثقة المتبادلة بين شركاء المصالح، مع التأكيد على قيمة الإخلاص والنقاء والاستفادة من ثقة القيادة السياسية في الدفاع عن مصالح الوطن، مهما كانت الضغوط وثقل المسؤولية وخشية خسارة رضا من لا تقوى على معارضتهم. وهناك قصص ومواقف، في هذه السيرة، جديرة بالتأمل، ومنها قصة «استيراد الرمل» من الولايات المتحدة الأميركية، لسنوات عدة. نعم «الرمل» ولا غيره، ونحن المحاطون بالرمال حيث ما توجهنا، و«معركة» تطوير حقل الشيبة وصناعة الغاز مع الشركات الأجنبية، فقد وقف وزير البترول والثروة المعدنية علي النعيمي وفريقه المهني ضد محاولات الشركات الأجنبية التشكيك في أهلية «أرامكو السعودية» وقدرتها على تنفيذ المشروع وتحركها لاستخدام ضغوط بعض النافذين للحصول على الصفقة بشروطهم المجحفة في حق الوطن، ولكن موقف ولي العهد (الملك) عبدالله بن عبدالعزيز، يرحمه الله، في هذه القضية لهو جدير بالإشادة والتقدير، فعندما كثرت الضغوط واختلفت الاجتهادات استأنس ولي العهد (الملك) عبدالله برأي مستشاره، غازي القصيبي، الذي كان رأيه «أعط الخبز لخبازه. هذا مشروع يتعلق بالنفط والغاز ولديكم وزير بترول، نصيحتي هي تفويضه بالمسؤولية كاملة وتركه يتخذ القرار»، وعن هذه المعركة يقول صاحب السيرة: «المحصلة النهائية كانت مرضية، إلا أن تلك المرحلة قد أنهكتني جسدياً ونفسياً، ونحتت من عمري وجهدي ما الله به عليم». عند آخر كلمة في هذا الكتاب الشيق بدا كأن سيرة هذا الرجل تقول للناشئة: «عندما تكون طفلاً صغيراً جاهلاً، لا أب يدفعك للنجاح، ولا أم توقظك في الصباح، وعليك أن تنفض عن نفسك غبار الحاجة وتزيح من طريقك صخور التحديات لتصنع مستقبلك، حينها تدرك قيمة الإصرار وثمرة قوة العزيمة وفائدة الضمير الحي». * كاتب سعودي. mohalfal@
مشاركة :