كيف نفهم الإرهاب؟ أليس هو ممارسة العنف بعد اكتمال فترة الرقاد على التطرف، وكراهية تختبئ خلفها توقعات الجرائم التالية، فردية كانت أم جماعية؟العرب حامد الكيلاني [نُشر في 2017/08/23، العدد: 10731، ص(9)] السيناتور الأميركي إدوارد كينيدي الملقب بالعم تيدي، وفي جلسة استجواب الكونغرس لكبار القادة العسكريين في الجيش الأميركي إثر فضيحة تعذيب المعتقلين في سجن أبوغريب، وبعد مجموعة أسئلة حادة اتسمت بإدانة التبريرات وعدم القبول حتى بالاعتذارات، توجه بكلمة قصيرة فيها من الأسف والأسى والغضب الشيء الكثير؛ قال في نهايتها متسائلا “هل هذا ما اجتهد عليه الآباء المؤسسون من جورج واشنطن إلى أبراهام لينكولن وتوماس جيفرسون وجيمس مونرو؟ تصرفات بهذا المستوى هل تنبئ بأخلاق دولة عظمى مثل أميركا؟” وأكمل إدوارد “إنني أخجل وأغضب وأشعر بالعار أنا وأميركا مما فعلتم”. موجهاً كلامه بقوة إلى من حضر في جلسة الاستجواب وسط صمتهم وإطراق رؤوسهم. أشهر صور الفضيحة كانت للمجندة الأميركية ليندي أنغلاند من وحدة الشرطة العسكـرية 372 للجيش الأميـركي وهي تتسلى بسحب معتقل مشدود بحبل وهو عار تماما. ذلك المعتقل كـان صحافيا عراقيا، عاش بقربي لسنوات صديقا مسالما محترما، لكن لا أحد حينها من كل المعنيين تدخل لحمايته أو للدفاع عنه ولو بكلمة. بعد خروجه من محنته تحدث لي عن وقائع لو وضعت كما هي أمام إنسان بقيمة إدوارد كينيدي ربما لمات على منصته من هول ما تتسبب فيه الكراهية والاستهزاء والتعصب وإهانة من لا ننتمي إليهم في الجنس واللون والعقيدة والوطن ومن نختلف معهم حتى في الأفكار. كيف نفهم الإرهاب؟ أليس هو ممارسة العنف بعد اكتمال فترة الرقاد على التطرف، وكراهية تختبئ خلفها توقعات الجرائم التالية، فردية كانت أم جماعية؟ عمليات دهس في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وغيرها يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية داعش، ويسقط خلالها الأبرياء. في المقابل يتصاعد العنف ويتمظهر في جماعات اليمين المتطرف وبالدهس أيضا، كأنما هي “لايكات” أو مشاركة منشور على مواقع التواصل الاجتماعي إعجاباً أو رداً بالمثل. رسائل تحمل في طياتها إنذارات لنمو مخاطر حقيقية تستهدف المجتمعات الإنسانية. في يونيو الماضي دهست سيارة مصلين قرب مسجد شمال لندن. في أغسطس الجاري سيارة تدهس متظاهرين مناهضين للعنصرية في مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا الأميركية أقدم عليها أحد مؤيدي حركة النازيين الجدد. وسيارة أخرى تدهس جموعاً من جنسيات مختلفة في مدينة برشلونة الأسبانية. جرائم منفصلة ليس بينها صلة لكنها مؤشر لفشل الحكومات والمجتمعات وعجزها عن السيطرة على الأفكار الهدامة وإدانتها ومحاصرتها وتشخيصها قبل أن تستفحل وتتحول إلى دواعش انشطارية ولو ذات خلية واحدة. ردود الفعل عادة ما تكون سريعة وصريحة ومن كل الجهات لما نتفق عليه جميعا، ولا ننتظر في ردة فعلنا لنفكر أو نختار موقفاً معيناً، كالموقف من داعش بانتهاكاته وفظاعاته وبشاعات جرائمه. ولو أردنا أن نتوقف بين طيات التشخيص لقلنا إن جرائم ترتكب كذلك من مجموعات تحارب داعش، فإننا سنجابه باتهامات جاهزة بالمحاباة أو الميول أو تشتيت الرؤية إلى مصادر فرعية غير إرهاب داعش. لكن ماذا عن الانتهاكات البالغة التي ترتكبها العناصر الأخرى كالتي اعترف بها مؤخرا رئيس وزراء العراق، وهي جريمة واحدة لم يتسن القفز فوقها لأنها كانت صيدا إعـلاميا ثمينا وفضيحة أخـلاقية طالت كواليس الحـرب وما أكثرها في الموصل وشقيقاتها من المدن العراقية المنكوبة بمشاريع التطرف والعنصرية وازدراء الآخر وانتشار وتكرار العنف والتعود عليه. جريمة الدهس في شارلوتسفيل الأميركية طرحت للعالم وقائع لا ينبغي حتى للنعامة أن تدس رأسها في الرمال، لنتمكن من رؤية حقيقة أن ثمة شاحنة خلف مقودها رأس متهور يتجه بها نحو حتفه وحتف الغافلين أو المتجاهلين، ربما لاستخفافهم وسوء تقديرهم، أو لأنهم من هؤلاء الذين يُرحّلون المصائب إلى غيرهم من مسؤولين أو أجيال قادمة أو شعوب ثانية. هل حقاً تم تداول السلطة سلمياً في الولايات المتحدة الأميركية بين الرئيس باراك أوباما من الحزب الديمقراطي والرئيس دونالد ترامب من الحزب الجمهوري؟ المراسم البروتوكولية بحضور الشخصيات والـرؤساء السابقين وأداء القسم وإلقـاء الكلمات والتوديع الأرستقراطي للرئيس المنتهية ولايته، تلك المراسم كانت تخترق بجموع التظاهرات والعنف من الناخبين الديمقراطيين وهم من غير اليمين المتطرف في رفض سافر لنتائج الانتخابات، مع تحريض من أجهزة إعلام ومن وزير الخارجية جون كيري الذي نزل مع كلبـه بين الحشود، ليوصل رسالة تحدّ لمعايير الـديمقراطية فيها صك مفتـوح للعنف. على مدى الأشهر الماضية من إدارة الرئيس دونالد ترامب لم تهدأ إيقاعات التشكيك بالإدارة الجديدة ومحاولات تسقيطها دون انتظار تعبئة الناخبين لدورة انتخابية مقبلة بعد انتهاء الفترة الرئاسية الحالية. الحالة الأميركية في يومياتها أشبه بسيناريو اختيار حيدر العبادي ليكون رئيساً لوزراء العراق بعد دورتين انتخابيتين تولى فيها نوري المالكي رئاسة الوزراء، رغم أن ترشيح العبادي جاء ضمن توافقات ورغبات من نفس الكتلة التي ينتمي إليها كلا الطرفين بل هما من حزب واحد هو حزب الدعوة. إلا أن الحرب الإعلامية استمرت للتسقيط والتحريض المعلن والمبطن والمناورات والاصطفافات والاستعدادات التي تعدت الحدود، إلى معاناة الشارع في التآمر على أمنه ومستقبل البلاد عموماً ووحدتها والمزايدة على الدم والمآسي لإعادة ترتيب الأوراق القادمة. التداول السلمي للسلطة اعتراف بالمـواطنة والولاء للديمقراطية ودعـم الثوابت لتثبيت السلم الأهلي وتعزيز مكانة سيادة الدولة وحياة المواطن وتذليل الصعوبات. جريمة الدهس في شارلوتسفيل قدمت لنا صورة مجسمة للتطرف الذي استحال إلى عنف دموي. صنفها الرئيس ترامب إلى مواجهة بين اليمين البديل واليسار البديل وبينهما مسالمون من الجهتين. اليمين البديل هو اليمين المتطرف الإرهابي من النازيين أو الفاشيين الجدد، ومن تسميتهم نستدل على عنصريتهم لاقتدائهم بهتلر وموسوليني، ولهم تجمعات وتنظيمات في دول أوروبية أيضا ومظاهرهم واضحة في مدن متطرفة جدا ترفض التعايش مع أديان أو أعراق أخرى. مع النازيين الجدد منظمة كو كلوكس كلان ويعود تاريخها إلى ستينات القرن التاسع عشر وغالباً ما نتعرف عليهم في الأفلام الأميركية التي تتناول حقبة الحرب بين الشمال والجنوب، وهم دعاة التمييز العنصري والتعصب ويمارسون طقوسا كالحفلات التنكرية يرتدون فيها على رؤوسهم أكياس الوسائد البيضاء والمثقوبة في مواضع العينين والفم. الغريب أن لهم اليوم من يمثلهم ويتحدث نيابة عنهم. اليسار البديل هم المناهضون للعنصرية الذين لو يتورعوا عن العنف أيضاً وشاركوا في إسقاط تماثيل لجنرالات من أيام الحرب الأهلية الأميركية. في المقابل أقدم الطرف الآخر على إسقاط تمثال لأبراهام لينكولن الملقب بمحرر العبيد رغم أن للتاريخ تفاصيل عديدة عن تلك الحقبة. ما لا يمكن السكوت عنه هو العنف الذي أدى إلى مقتل امرأة وجرح 19 آخرين في جريمة الدهس المتعمد والاشتباكات. الرئيس دونالد ترامب تردد وتأخر في إدانة المجموعة العنصرية الصريحة في توجهاتها وعنفها بما أكـد على شعبوية الرئيس وتفرده كرئيس للولايات المتحدة الأميركية، يقول ما يراه دون مبالاة في التحليلات إن كانت في صالحه أو ضده، بما يعرضه للانتقادات من أعضاء الحزب الديمقراطي المتربص به، وكذلك من بعض الجمهوريين والإعلاميين خاصة في قضية حساسة تتعلق بدهس عنصري إرهابي فيها طرف يهرول الجميع لإدانته وبأقسى العبارات التي يستحقها؛ لكنها أحياناً لأغراض التسقيط السياسي أو إعادة ماكياج الوجوه القديمة المجربة. لهذا تابعنا سباقاً لنقد الرئيس ترامب وحتى السخرية كما فعل المرشد الإيراني علي خامنئي وغيره من الذين طالتهم السياسة الأميركية الجديدة بالعقوبات أو التحذير أو التهديد. رغم أن ترامب عاد ليكرر إدانته للعنصرية بكل خلفياتها. لا يمكن تبرير العنف والإرهاب والعنصرية أو الإرهاب المقابل. لأننا نسارع بإدانة الإرهاب المتفق عليه كما فعل قادة الجيش الأميركي أو كما فعل العديد من قادة الدول أو كما غرد الرئيس السابق باراك أوباما بمقولة مقتبسة من الزعيم الراحل نيلسون مانديلا. تغريدة باراك أوباما هتفت وراءها الأصوات والأقلام الإيرانية لتمجيد فترته الرئاسية وسمحت لنفسها أن تسأل: لماذا يرفض العرب التمدد الإيـراني داخل أراضيهم وهو الذي جاء لإنقاذهم من الإرهاب ومساعدتهم عسكريا واقتصاديا وإنسانيا؟ الأغرب أن يدافع بعض المحسوبين على شعبنا الفلسطيني عن مشروع الميليشيات الإيرانية التابعة للحرس الثوري والتي قتلت أخوتنا الفلسطينيين في شقق البلديات في بغداد وشردت عوائلهم، أو التي شـرعت جوع أهلهم وموتهم في مخيم اليرموك بدمشق. الدهس في كل أرض ومن كل اتجاه، وثمة صمت وإطراقة رؤوس في جلسة استجواب لا تنتهي لما تبقى من إنسانيتنا، وصوت في أعماقنا يخجل من تطرفنا وانحيازنا لعنف لا يزال مؤجلا. كاتب عراقيحامد الكيلاني
مشاركة :