الهيمنة على الإعلام تأخذ أشكالا جديدة في العصر الرقمييتوقع الكثيرون أن العصر الرقمي نجح في كسر قيود الرقابة على وسائل الإعلام، بسبب انتشار المعلومات عبر الإنترنت، إلا أن الواقع يخالف ذلك تماما مع اشتداد المنافسة، وتراجع الإيرادات وإفساح المجال للممول بالسيطرة على المنافذ الإعلامية.العرب [نُشر في 2017/08/23، العدد: 10731، ص(18)]لكل عصر رقابته على الصحافة نيويورك – لم يكن ممكنا أن تبقى الصحافة والإعلام في معزل عن الموجة الشعبوية التي تجتاح العالم، حيث باتت الحكومات و”المصالح الراسخة المتشابكة مع السياسة”، تنخرط في نوع من السيطرة الناعمة التي يمكن أن يطلق عليها وصف “الاستيلاء على أجهزة الإعلام”، كما تقول العالِمة السياسية ألينا مونجيو بيبيدي. وتطول قائمة البلدان التي اتخذت نهجا بالسيطرة على الخطاب العام من بولندا، والمجر، وتركيا، والصين، وروسيا. ووصل الأمر إلى الولايات المتحدة أيضا، إذ يحاول الرئيس دونالد ترامب بلا هوادة تشويه سمعة أجهزة الإعلام الإخبارية، فضلا عن عجز الصحافة هناك، على نحو غير مسبوق، عن الوصول إلى أعضاء إدارته. وتقول آنيا شيفرين، مديرة متخصصة في التكنولوجيا والإعلام والاتصالات في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا الأميركية، في تقرير نشره موقع “بروجيكت سينديكيت”، إن عصر الرقابة على الصحف وإعادة صياغة محتواها ماديا، انتهى في الأغلب. ولكن كما تُظهِر التطورات الأخيرة، تظل حرية الصحافة عُرضة لمخاطر شديدة. ويمتلك القادة السياسيون وسائل الإعلام في أماكن متعددة من العالم صراحة (مثل سيلفيو بيرلسكوني في إيطاليا)، أو يعملون على ضمان ولاء قادة وسائل الإعلام لهم، سواء من خلال المحسوبية أو تسليط العقاب. وكان واحد من أوائل البنود على أجندة الحكومة اليمينية المتطرفة في بولندا، التي يقودها بشكل غير رسمي ياروسلاف كاتشينسكي، يتلخص في تبني قانون إعلامي جديد يسمح لها بتعيين وفصل رؤساء شبكات البث العامة. وفي تركيا، سجنت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان الصحافيين المنتقدين وأغلقت أو فرضت سيطرتها على شركات الإعلام، باستخدام الخوف لفرض صياغتها للتقارير. ويهاجم ترامب منتقديه، في النسخة الأميركية (الأقل تطرفا من نهج أردوغان)، مثل محطة سي إن إن، وصحيفة نيويورك تايمز، مما يشجع منافذ إعلامية أخرى مثل وال ستريت جورنال، على التعامل معه بشكل لا يخلو من محاباة. وفي أماكن أخرى، يقوم مقربون من الحكومة بمهمة التنمر والمضايقة. ويحاول القادة السياسيون أيضا أحيانا السيطرة على القصص الإخبارية من خلال حرمان المنظمات الإعلامية المعارضة أو حتى المنتقدة من الوصول إلى المصادر والمعلومات، كما حدث في الولايات المتحدة، وبشكل أكثر عدوانية، في فنزويلا المبتلاة بالأزمات في عهد الرئيس نيكولاس مادورو.وجود وسائل الإعلام التي تتمتع بالحرية ضرورة أساسية لتعزيز الديمقراطية في أي بلد، ويجب حمايتها بأي ثمن ويُعَد الاستيلاء على أجهزة الإعلام بهذا النحو أمرا بالغ الأهمية لتمكين الحكومات -وخاصة تلك التي تلاحق سياسات ربما لا تتمتع بشعبية كبيرة- لتعزيز الدعم العام. فقد تمكن ترامب بفضل حملته ضد “وسائل الإعلام الإخبارية الكاذبة” من الاحتفاظ بولاء قسم كبير من قاعدته الانتخابية، على الرغم من الكشف عن أسرار ربما كانت لتدفن أي سياسي أميركي آخر. ويساعد الاستيلاء على أجهزة الإعلام في تشكيل التصورات العامة، وهو قادر أيضا على تشكيل النتائج الاقتصادية. وترى الخبيرة الاقتصادية ماريا بتروفا أن الاستيلاء على أجهزة الإعلام من الممكن أن يعمل على توسيع فجوة التفاوت الطبقي، وخاصة إذا كان الأثرياء هم من قاموا بعملية الاستيلاء (وليس الساسة، الذين يمكن التصويت لإبعادهم من مناصبهم عادة). وعلى نحو مماثل، يعتقد جياكومو كورنيو من جامعة برلين الحرة أن التركيز الاقتصادي المتزايد يجعل انحياز أجهزة الإعلام أكثر ترجيحا. ولا يعتبر الاستيلاء على أجهزة الإعلام ظاهرة جديدة. ولكن كان المفترض أن تساهم الإنترنت في إلغائها، أو على الأقل في الدول التي لا تعتبر فيها الرقابة على الإنترنت صريحة. فمع سقوط الحواجز التي تحول دون الدخول، وانتشار المنصات الإعلامية، تصور الكثيرون، أنه أصبح من الصعب الاستيلاء عليها جميعها. فحتى إذا جرى الاستيلاء على بعض المنصات، يظل بوسع أجهزة الإعلام أن تؤدي وظيفتها الرقابية بفعالية، ما دامت متنوعة بالقدر الكافي. ثم تعززت هذه التوقعات بفعل افتراض أن المزيد من المنافسة من شأنه أن يؤدي إلى أخبار أعلى جودة. وكانت المفاجأة أن ما حدث معاكس تماما للتوقعات، ذلك أن ظهور وسائل الإعلام الرقمية جعل من غير الممكن الاستمرار في الاعتماد على نماذج أعمال وسائل الإعلام التقليدية. فقد هاجر المعلنون إلى الإنترنت، وحيث أصبح المستهلكون، أقل استعدادا للدفع في مقابل المحتوى. وقد تسببت الموارد المتضائلة في تقويض نوعية التقارير، خاصة وأن العديد من وسائل الإعلام التي تفتقر إلى التمويل، حاولت الوصول إلى جمهور عريض. وتسببت متابعة النقرات على مواقع مثل فيسبوك، وتويتر، وغوغل في تراجع قدرة أصحاب وسائل الإعلام القديمة على أداء دورهم التقليدي في ضمان المساءلة. وتسبب تدني عائدات وسائل الإعلام في تعزيز الاستيلاء عليها بطريقة أخرى، فقد أصبح الاتجاه إلى امتلاك منفذ إعلامي أكبر من ذي قبل، فإذا لم تتمكن صحيفة من توفير العائدات الاقتصادية، فإن فرض النفوذ يُصبِح الدافع الرئيسي لشراء أو إدارة أي صحيفة. ومع سماح وسائل الإعلام بالاستيلاء عليها على نحو متزايد، سوف تنحسر المساءلة السياسية والشركاتية. وتشكل وسائل الإعلام التي تتمتع بالحرية ضرورة أساسية لتعزيز الديمقراطية في أي بلد. وإذا كان لنا أن نحمي الديمقراطية، فيتعين علينا أن ندافع عن وسائل الإعلام بأي ثمن.
مشاركة :