الحياة في مخيمات اللاجئين صورة مروعة لا تختلف عن فظاعات الحربعلى مدار العشرين عاماً الماضية، اشتعلت حروب كثيرة وتفرّعت الصراعات وانطلقت شرارة الموت في بعض مناطق عالمنا، ولمّا تزل متقدة تأكل في طريقها الأخضر واليابس على حدّ سواء من دون أن تجد من يقف في طريقها. الحرب هنا وهناك في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن صارت تطارد الإنسان بكل مصنفاته وأحواله؛ فهناك موت غير مناسب للأطفال وللكبار، للرجال وللنساء، للمدنيين والعسكريين ثم الأبرياء والمخدوعين، وحدهم القتلة من يحصلون على حياة مناسبة وهم لذلك يمكثون مطولاً كصخرة ثقيلة على صدور الأبرياء من ضحاياهم.العرب نهى الصراف [نُشر في 2017/08/23، العدد: 10731، ص(21)]الحياة في المنفى تسبب ضغوطا نفسية نجح بعض ضحايا الحروب في اللجوء إلى دول مجاورة أو بعيدة في أقصى أقاصي الغربة، حتى تجاوز عددهم خلال عقدين فقط من الزمن حوالي 65 مليون نسمة! هذه النسبة التقديرية توحي للمراقبين بأن العدد الحقيقي أكبر بكثير، في حين رافق هذه الزيادة خطاب شبه عالمي معاد للاجئين كأفراد وجماعات، لأسباب يبدو معظمها غير مبرر، كما دأبت بعض الأصوات الناشزة إلى محاولة الضغط على حكوماتها لمنع تدفق اللاجئين إلى أراضيها، إضافة إلى إعادة من تسنّى لهم الوصول بالفعل ومازالوا ينتظرون الإذن بالإقامة والحصول على حق اللجوء في وطن بديل، بعد أن استعصت عليهم بلدانهم الأصلية. ويرى أنطونيو غوتيريش؛ الأمين العام للأمم المتحدة بأن المدنيين، بمن فيهم العاملون في المجالين الطبي والإنساني، يتحمّلون أكثر من غيرهم وطأة النزاعات الشديدة في جميع أنحاء العالم، مشيراً إلى أنّ الـ65 مليون لاجئ الذين فرّوا بسبب الأزمات يعدّ رقماً قياسياً، “لا أحد يفوز في هذه الحروب، فنحن جميعاً خاسرون”. إلى ذلك، تتأسس بعض محاولات رفض تواجد اللاجئين على مجموعة من المغالطات وسوء الفهم، كما يشير إلى ذلك د. كينيث ميلر؛ كاتب وطبيب نفسي أميركي متخصص في الآثار السلبية التي تتركها الحروب على الصحة النفسية للأفراد، من خلال عمله في مجال دعم اللاجئين والأفراد المتضررين بفعل أهوال الحروب والهجرة خاصة الأطفال منهم. ويشير ميلر إلى أن العديد من الأطباء والباحثين في الغرب يفترضون بأن الاضطرابات والضغوط النفسية التي يعاني منها معظم اللاجئين مردّها في المقام الأول، أعمال العنف وتجارب الحرب الرهيبة والقتل والتشريد وخسارة الأحبة في الوطن، لكنهم أغفلوا الجانب الآخر لهذه الخسارة، وهو الحياة في المنفى. ولهذا كان تركيز المتخصصين طوال الوقت على موضوع محاولة شفاء إصابات القلق والاكتئاب وغيرها لمعالجة آثار الصدمة المرتبطة بالحرب والماضي القريب، ولم يكن هذا الخيار في محلّه بالطبع؛ إذ أن الأبحاث في العقدين الأخيرين أشارت إلى أن الضغوط بعد مرحلة الهجرة يمكن أن تكون مدمّرة للصحة النفسية، وقد تهدّد الصحة العقلية للأشخاص على المدى البعيد، كما هو الحال تماماً مع تجارب العنف المرتبطة بالحرب.الاضطرابات والضغوط النفسية التي يعاني منها معظم اللاجئين مردها في المقام الأول القتل والتشريد وخسارة الأحبة أما الحياة في مخيمات اللاجئين فهي صورة مروّعة في تفاصيلها لا تختلف عن فظاعات الحرب؛ فالحياة هناك تنطوي على التعرّض المستمر للإسكان المكتظ وغير الملائم، وعدم الحصول على التغذية الكافية والرعاية الطبية، تفشي البطالة والفقر المدقع، العنف العائلي والاعتداء الجنسي داخل المخيمات، مع طلبات اللجوء المعلقة والانفصال عن الأقارب الذين تُركوا في الوطن، والأهمّ من ذلك، أن شعوراً مزمناً من عدم اليقين بشأن مستقبل الحياة يبقى ملازماً للاجئين حتى بعد سنوات طويلة من حصولهم على حقوق اللجوء حيث يتسنّى لهم الحصول على استقرار مادي بسيط. ترتبط هذه الظروف المجهدة بقوة باضطرابات نفسية عدة أبرزها الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. وعلى الرغم من أن العنف المرتبط بالحرب يُسهم بوضوح في محنة اللاجئين، إلا أن التركيز الضيّق على صدمة الحرب يمكن أن يقودنا إلى التغاضي عن الضغوط التي توفرها بيئة اللجوء الحالية. هناك سوء فهم كبير أيضاً، في ما يتعلق باللاجئين الذين يعتقد البعض بأن سبب تدفقهم الكبير هو للبحث عن فرص العمل والاستفادة من الخدمات الاجتماعية والصحية التي تقدمها بلدان اللجوء، خاصة في أوروبا وأميركا، مع ما توفره مثل هذه البلدان من مستوى معيشي راق ومرتفع قياساً إلى الدول التي يأتي منها معظم اللاجئين. إلا أن سوء الفهم هذا سرعان ما يتبدد عندما يتضح بأن اللجوء هو الخيار الأخير والوحيد للبعض، الذين واجهوا تهديداً كبيراً لحياتهم وحياة أسرهم، أو تعرضوا فعلاً للتعذيب أو الانتهاك الجنسي، ولم يكن هدفهم البحث عن حياة مرفهة بعد أن خسروا ممتلكاتهم ومنازلهم وعلاقاتهم الاجتماعية ووظائفهم المحترمة. مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أعداد اللاجئين التي تبدو كبيرة في بعض دول أوروبا، لا يعدّ رقماً محسوساً بالمقارنة مع أعدادهم في مخيمات اللاجئين والمستوطنات العشوائية في البلدان المتاخمة لبلدهم الأصلي، فهناك الملايين الذين يعيشون منذ سنوات في ظروف سيئة، وأسوأ ما فيها أنها لا تلوح بأيّ بادرة من أمل فلا الظروف تتحسن ولا الحروب تنتهي. وهكذا تقضي أسر بأكملها سنوات مهمة من حياتها وهي معلقة بين حياة تعيسة وموت فظيع، خياران أحلاهما مر. من جانب آخر، هناك تحريض واضح من بعض السياسيين المتطرفين بأن اللاجئين هم المتسبّب الأول في ارتفاع نسبة الجريمة بكل أشكالها، في مجتمعات الدول التي تستضيفهم، في حين تشير الدراسات في هذا الإطار إلى أن اللاجئين هم أقل انخراطاً في السلوك الإجرامي من سكان البلد الأصليين وبصورة خاصة اللاجئين من العراق وسوريا وأفغانستان، الذين ما زالوا في نظر متخصصين، متهيبين من واقعهم وهم في مخاوفهم هذه وانعزالهم، أبعد ما يكونون عن ارتكاب جريمة ضد مجتمع استضافهم وقدم لهم الحماية ولو إلى حين.
مشاركة :