لو أن سرحان فاخت الذي يعتبر العقل المدبر لهجمات مدريد في 11 مارس 2004 لم يقدم مع المجموعة التي ينتمي لها على تفجير نفسه والاقدام على الانتحار بعد محاصرة الشرطة الاسبانية الشقة التي لجأووا اليها بعد تلك التفجيرات الإرهابية لكان اليوم في سن الثامنة والأربعين ولربما كان اعتقاله حيا ساعد في الكشف عن تلك الخلايا التي جعلت لها أوكارا من المغرب الى إيطاليا وفرنسا واسبانيا وتونس ومن يدري فربما تكون تلك كانت وراء تفجيرات مدريد تمددت الى أبعد من حدود هذه الدول. عديدة هي الإشارات التي تتحدث عن علاقة بين الشبكة الإرهابية المتورطة في سلسلة تفجيرات قطار مدريد قبل ثلاثة عشر عاما وبين عملية الدهس التي استهدفت مدينة برشلونة وأدت الى مقتل 14 شخصا حتى كتابه هذه الكلمات وإصابة العشرات من جنسيات متعددة وكشفت عن تورط أطراف على علاقة بما وصف في حينه بأكبر هجوم يستهدف مدينة أوروبية قبل أن يتكرر السيناريو في لندن ويتجه خيال تلك الجماعات الارهابية الى عمليات الدهس عبر الشاحنات أو السيارات من نيس الى برلين وباريس والتي توشك المدن الأوروبية أن تتحول الى مقاطعات محاصرة بالحواجز الكونكريتية تحسبا لتكرار تلك العمليات. وكما في كل عملية ينصرف الاعلاميون للبحث عن المتورطين وفي كل مرة يصدم الرأي العام الدولي وهو يكتشف أن أحد منفذي تلك العمليات أو أكثر كان قريبا أو جارا يراه كل يوم وربما تبادل معه التحية في بعض المناسبات وهو لا يدري أنه مشروع قنبلة انتحارية لن تستثنيه في حال تواجده لحظة تنفيذ العملية. السؤال الاكثر الحاحا اليوم بين الخبراء وعلماء الاجتماع ولنفس ما الذي يمكن أن يجعل شابا مقبلا على الحياة يدمن ثقافة القتل والدمار ويتحول الى قنبلة موقوتة قد تستهدف أحب وأقرب الناس اليه بما في ذلك والديه واخوته. ولا نخال الأمنيين معنيين بذلك فهمهم ينحصر في استباق هؤلاء ومنع وقوع جرائمهم. وسيظل السؤال يطرح طالما استمرت ظاهرة القنابل البشرية. والحقيقة أن الإصرار على التوقف عند هجمات برشلونة والعودة الى هجمات مدريد مرده عودة شبح سرحان عبدالمجيد فاخت ذلك الشاب التونسي الذي يصر على وصفه كل من عرفه بصاحب الوجه الطفولي وهو الابن الوحيد بين شقيقتين والطفل المدلل والتلميذ المتفوق في دراسته الذي لا يعرف عنه غير الهدوء والانضباط. ولاني عرفت هذا الطفل وعرفت عائلته التي كانت تقيم بالطابق الثالث في نفس العمارة التي كبرنا فيها أطفالا فقد ظل السؤال يلازمني ويؤرقني مع تواتر التقارير المحلية والأجنبية عن ارتفاع عدد الشباب التونسي المنتمي للجماعات الإرهابية لاسيما في السنوات التي تلت الثورة وما رافقها من انتشار للفوضى وغياب للامن ولدولة القانون. ولكن ما بجعل حالة سرحان فاخت مختلفة أنها سبقت بوقت طويل سنوات ما بعد الثورة وبالتالي كان بالإمكان أن يكون ناقوس الخطر الذي أهملته السلطات التونسية ولم تحاول رصده بعد رواج تورط سرحان فاخت واستباق تلك الجيوش التي تقدر بنحو أربعة الاف مقاتل في سوريا والعراق وربما اكثر. ومع أنه قد يكون من السابق لاوانه الحسم بشأن مختلف العناصر والحلقات في سليلة الاحداث التي سبقت الهجوم الإرهابي أو عملية الدهس التي هزت قبل أيام مدينة برشلونة السياسية فان العديد من المؤشرات توحي بوجود ترابط قوي بين هجمات مدريد في 11 مارس 2004 والتي وصفت في حينها بأنها أسوا عملية إرهابية على أرض أوروبية وبين العملية الأخيرة التي يتجه الكثير من الخبراء الى ربطها بهجمات الذئاب المنفردة التي باتت تتحرك في كل الاتجاهات كلما أتيحت لها الفرصة لتسجيل ضرباتها الموجعة وتوجيه رسالة للحكومة والاستخبارات الأوروبية بأنها لا تزال قادرة على التحرك واستهداف ما أمكن من المدنيين في هجمات باتت شبه يومية في مدن وعواصم أوروبية. والحقيقة أنه سيكون من الغباء اعتبار أن مثل تلك الهجمات مرتبطة بذئاب منفردة هنا وهناك تسعى لعمليات انتقامية في هذا البلد أو ذاك. بل انه حتى وان كان في هذا الموقف جزء من حقيقة مغيبة بشأن هذه الهجمات فانها ليست كل الحقيقة والأكيد أن ما يسمى بالذئاب المنفردة لا يمكنها القيام بمثل تلك الهجمات الفظيعة لو لم يكن وراءها شبكات متغلغلة تعتمد سياسة تقاسم الأدوار وتتواصل عبر الانترنت وعبر شبكات التواصل الاجتماعي وكل الإمكانيات الكلاسيكية أو التكنولوجية لتمويل ودعم تلك الذئاب والتأثير عليها ودفعها لارتكاب جرائمها حتى المرحلة الأخيرة منها أو هذا ما يفترضه المنطق. ليس من السهل أن يصحو أي شخص وقد قرر بدافع شخصي قتل عشرات الأبرياء بالدهس أو الطعن أو التفجير دون أن يكون أعد لذلك اعدادا نفسيا مسبقا ودون أن يكون خضع للاستقطاب والاغراء باعتبار أن ما يقوم به يتنزل في اطار الجهاد المقدس وما سيتلوه من جزاء مقدس لا يرتقي اليه غير أمثاله ممن يقدمون على قتل الطغاة أو الكفار من غير الديانة الإسلامية أو من دون أن يكون المنفذ قد خضع لنوع من استلاب الإرادة والتخدير ويتحول الى الة ادمية تحرك بالريموت كونترول. ومن هنا تسقط نظرية الذئاب المنفردة وتتحول الى مجرد حجة يعتمدها السياسيون والامنيون لتبرير الفشل أو الاخطاء الأمنية أو التغطية على أي تقصير في تلك العمليات في مدن كانت حتى وقت قريب تعتبر محصنة من الإرهاب والإرهابيين. شبح عودة هجمات مدريد والخلية التي ارتبطت بهجمات برشلونة ليس من فراغ بعد ظهور اسم الإمام عبد الباقى التاسي كأحد المتهمين فى عملية الأسبوع الماضي وهو الذي ادين وسجن بسبب المخدرات ثم سجن وهناك التقى بأحد المتورطين في هجمات مدريد ونحول الى متطرف ويعتقد أن التخطيط لهجمات برشلونة تم في السجن ويبدو أن امام بلدة ريبول الصغيرة على سفح جبال البيرينيه فى شمال كاتالونيا، كان يغري الشبان ويستقطبهم ويدفعهم الى التطرف. ووفقاً للصحافة الاسبانية فإن التاسي سجن لتورطه بتجارة المخدرات بين سبتة فى المغرب والجزيرة الخضراء فى جنوب إسبانيا، وكان السعدي قد أودع فى السجن قبل خمس سنوات، وتم حبسه إلى جانب رشيد إغليف المعروف باسم "الكونيخو" المحكوم بالسجن 18 عاما لدوره فى هجمات مدريد. ويبدو أن هذا وراء الانتقادات التي استهدفت أجهزة الاستخبارات الاسبانية التي فشلت في رصد الخطر القادم. الخلايا النائمة أو قطعان الذئاب الإرهابية لديها قدرة على إخفاء وجهها الحقيقي فهم يرتادون الحانات ويتوجهون الى المدارس ولكنهم يلتقون تحت جنح الظلام لترهيب المدنيين. صدمة الاهل والجيران من تورط ابناءهم وأقاربهم في هجوم برشلونة الأخير قد تساعد ربما على سقوط الاغشية عن الأنظار والانتباه لهذا الشباب الناقم على كل شيء واللاهث وراء الموت. لم يكن سرحان فاخت الوحيد وقد سبقه الى تلك النهاية كثيرون وتلاه الكثيرون أيضا. لن انسى ان لا احد انتبه الى أن ذلك الطفل الازهر ابن الجنوب التونسي سليل العائلة المتعلمة والمتفتحة الذي كان وعلى عكس اغلب أبناء العمارة لا يشكو من فقر أو خصاصة او حرمان من غياب للاب أو الام فقد توفرت له كل أسباب الرفاهية التي يتمنى جيل منتصف الستينات معانقتها. كم بيننا من سرحان فاخت، لا احد يدري ولا احد يعلم متى ينطلق القطيع في توزيع ذئابه لتنفيذ عملياتها الإرهابية. اسيا العتروس إعلامية تونسية atrousessia16@yahoo.fr
مشاركة :