التقارب السعودي مع شيعة العراق لا يمكن أن يكون على أساس ديني. هو تقارب عقلاني ومن المفترض أن يخفف الشيعة الضغط على سنة العراق إكراما لهذه المصلحة مع العرب.العرب أسعد البصري [نُشر في 2017/08/25، العدد: 10733، ص(9)] قبل سقوط صدام حسين كتب الشاعر العراقي عبدالرزاق عبدالواحد يقول “يا صبر أيوب لا ثوبا فنخلعهُ/ إن ضاق عنا ولا بيتا فنرتحل” بينما كان في كنف صدام حسين0 يمجد دكتاتورا حول الناس إلى عبيد بالخوف والقمع والحروب. نفس الشيء ينطبق على المثقفين الوطنيين الذين كانوا يشكلون معارضة في المنافي. كانوا يكتبون من المنفى والمعاناة وكأنهم غرامشي في دفاتر السجن. مواقف وقيم إنسانية وفكر عظيم، وبعد سقوط صدام حسين طمعوا في الرواتب والامتيازات. صاروا يغضون النظر عن ذبح الأطفال وإبادة القرى والمدن ويتسامحون مع العنصرية والطائفية بل كان بعضهم يروج لها. العنصرية في العراق من نوع فريد. فمثلا في أميركا تمت مكافحة العنصرية ضد السود ونادى كبار السياسيين والمفكرين بتحرير العبيد والمساواة. صار هناك إيمان بالعدل والمساواة. بينما في العراق الشيعة يمارسون العنصرية مؤخرا هذا صحيح، ولكنهم يمارسونها ضد السنة العنصريين أيضا. انظر ماذا حدث في الموصل المدينة العثمانية عالية الرأس. تم هدمها وإلصاق صفة الداعشية بها والآن التيار الصدري “تيار الفقراء” ينتشل السادة القدامى المتجبّرين بالقول أنتم منا ونحن منكم، نحن نساويكم بأنفسنا وننتشلكم من تهمة الجذام الداعشي والتمييز العنصري الذي تقوده إيران ضد أهل الموصل. بعد عودته من الرياض خاطب مقتدى الصدر أهل الموصل قائلا “نعم، أنتم منا ونحن منكم. أنتم إخوتنا في الوطن والدين والعرق والإنسانية، وأنني لأشعر بشعوركم وأحمل همومكم وآلامكم”. ما الذي حدث في الشرق الأوسط، لماذا كل هذه المشاكل؟ فالصراع مع إيران قديم منذ عام 1979 ولكن ما يجري اليوم ليس له مثيل. الذي تغيّر هو تركيا بعد يأسها من الدخول في الاتحاد الأوروبي والتوجه غربا. قررت فجأة الاستدارة والتوجه شرقا. توجه تركيا شرقا مزّق الأرض تحت العرب، فهذه ليست إيران المحجوبة بحاجز مذهبي بل دولة سنية ذات تاريخ مجيد. تركيا أكثر جرأة من إيران، دولة عملاقة حكمت خمسة قرون ومازالت الوثائق موجودة. التفوق النفسي موجود والنوستالجيا الإسلامية شعور خطير. هذه هي مشكلة الصراع مع قطر والإخوان. قطر عرّاب المشروع التركي في العالم العربي، مثلما أن العراق عرّاب المشروع الإيراني. العراق ساقط عقليا. إيران أخذت الثقافة الشيعية وصار صراعنا داخليا. مثلا نحن ركزنا على الخطر الإيراني كخطر طائفي على سنة العراق. من ناحية أخرى إيران تحالفت مع الإخوان المسلمين وشاركتهم حكم العراق، فصار سنة العراق خطرا عثمانيا على السعودية. كيف تساعدهم وقادتهم أعداء؟ وحين ظهر داعش صار أهل الخليج يحمدون الله على أن بينهم وبين سنة العراق درعا بشريا شيعيا يحميهم من الإرهابيين السنة. من ناحية ثالثة قامت تركيا وإيران بدعم الإرهاب السلفي وتم تسليم الموصل. من الذي أصر على نظام طائفي عراقي؟ أحزاب تابعة لإيران. من الذي قاد التمييز وفرق الموت والثقافة الطائفية؟ إيران. من الذي نظم الاعتصامات السنّية عام 2011؟ تركيا وقطر بذراع إخواني. من الذي زج بالمتطرفين فيها؟ بشار الأسد ونوري المالكي. من الذي سمح بعبور الجهاديين والمتطوعين؟ رجب طيب أوردوغان. مشروع تركي إيراني واضح. اضطرت أميركا للتحالف عسكريا مع إيران لتحرير الموصل، وسقط الخيار السلفي بالدماء والإرهاب. أصبحت المدرسة السلفية مرفوضة، وأصبح النموذج السني العثماني والإخواني هو السائد والمنتشر والمقبول. السعودية وجدت نفسها محاصرة. داخليا تعاني من ثلاث مشكلات؛ السلفية المتطرفة والسرورية والإخوان. إضافة إلى مشكلتها مع الشيعة المتطرفين أمثال نمر النمر. لهذا انسحبت المملكة من المشاريع الإسلامية وأطلقت عليها جميعا كلمة “الإسلام السياسي” واتجهت نحو الإصلاحات والعلمانية بقوة وأطلقت مشروع “المملكة 2030” للمستقبل، فهي في صراع مع الزمن سياسيا واقتصاديا، داخليا وخارجيا. الخلاف السعودي التركي هو “صراع صامت” وليس كالصراع المعلن مع إيران. تركيا أخطر من إيران فقد اختطفت مصر وليبيا وتونس في لمح البصر لولا تدخل السعودية بسرعة لتستعيد مصر وتونس وفِي اتجاه استعادة ليبيا. في هذه الأثناء تمزقت سوريا والعراق في صراع مذهبي وامتد النفوذ الإيراني إلى البحر الأحمر والمتوسط لتعود المملكة وتعلن عاصفة الحزم لحماية مضيق باب المندب وملاحقتها للثروة النفطية من سيطرة الحوثيين والابتزاز الإيراني. حاربت المملكة كجندي عربي ضد التوسع الفارسي والتركي. لهذا أقول إن العراق ساقط عقليا فهو بين تركيا وإيران. تحاول السعودية سحب شيعة العراق لا من إيران، بل في الحقيقة من تركيا عبر تقريبهم لطرد الإخوان من الحكومة العراقية ولخلق توازن بين العرب وإيران. فالسعودية لا تعرف خطوة إيران القادمة وماذا ستفعل بكل هذه الميليشيات المسلحة. الجنرال قاسم سليماني يصرح بأن الحشد الشيعي أقوى من الجيوش العربية، ويريد جعله مشابها للحرس الثوري الإيراني. النقاش الذي جرى بين القادة الشيعة والمسؤولين السعوديين هو كيف يمكن ضمان حكم شيعي ببغداد دون الحاجة إلى تحالف مع طهران. الشيعي العراقي غير مهتم بالمشروع الإيراني، هو لا يريد ضياع السلطة من يده. إذا استطاعت السعودية الإجابة بطريقة مقنعة على القلق الشيعي يمكن لنا أن نرى مشروعا سعوديا ناجحا في العراق. التقارب السعودي مع شيعة العراق لا يمكن أن يكون على أساس ديني. هو تقارب عقلاني ومن المفترض أن يخفف الشيعة الضغط على سنة العراق إكراما لهذه المصلحة مع العرب. بينما لو تتقارب السعودية مع السنة لأصبح الفهم السني دينيا للمسألة كما حدث للسوريين. السنة عندهم مظالم وقتول إذا مكنتهم السعودية ربما ينتقمون وقد يُحمِّل العالم السعودية المسؤولية عن الدماء التي ستسيل. خصوصا وأن جهات أميركية تنتظر الفرصة للابتزاز. الأفضل تقارب مع الشيعة ليس له وجه ديني ولا عقائدي، وتخفيف الضغط على سنة العراق ومع الوقت تعود الحياة طبيعية. الولايات المتحدة ترى أن الجنون الديني قد تفشى في الشرق الأوسط وهي تريد حليفا قويا تعتمد عليه في إدارة المنطقة. لا يمكنها حراسة المنطقة بجنودها فهذا مكلف جدا. إيران رشحت نفسها بما تمتلك من واقع جغرافي وماض إمبراطوري ومواهب في الإدارة السياسية، فكل الدول التي فيها أكراد مثلا تعاني مشكلة انفصالية إلا إيران بسبب مواهبها الإدارية. تركيا رشحت نفسها بما تمثله من ماض عثماني مجيد ولأن المنطقة العربية كانت تحت حكم إسطنبول لقرون طويلة. السعودية بكل ما في العربي من حرية واحترام للنفس قالت “لا” ورشحت نفسها بثقة لقيادة المنطقة. فهي دولة عربية أقرب إلى العرب من الترك والفرس وتحكم باستقرار سياسي لقرن كامل، وضربت مثالا لأميركا في نجاحها بإدارة مجلس التعاون الخليجي المكون من ست دول عربية مستقرة وناجحة. كاتب عراقيأسعد البصري
مشاركة :