تشهد الساحة الفلسطينية اليوم أعمق انقساماتها السياسية، وتعيش أخطر مراحلها الوطنية، وتواجه أشد الصعاب وأسوأ التحديات في تاريخها بما يهدد وجودها ومستقبلها وهويتها وانتماءها، وتتعرض لأزماتٍ كبيرة داخلية وخارجية، في المحيط والإقليم وعلى المستوى الدولي القريب والبعيد، ممن يتآمرون عليها ويحاولون الفتك بها وتصفيتها، واستغلال الظروف الراهنة للقضاء عليها وخلق حلولٍ نهائيةٍ لها، بما يتناسب مع مصالح العدو ويتفق مع أهدافه، ولا يتعارض مع أحلامه وطموحاته، وهذا هو غاية ما كان يحلم به ويتمناه، فالمرحلة مناسبة والظروف مواتية والخيارات محدودة، والمعارضة ضعيفة والقدرة على الرفض معدومة، والأنصار يقلون والموالون ينفضون، والحلفاء ينعدمون والأشقاء يتخلون، والأعداء يزيدون والخصوم يتفقون، والمجتمع الدولي بات يتخلى عن الفلسطينيين وقضيتهم ويصنفهم إرهابيين، ويتهمهم بالعنف ويتخلى عنهم ويحرض عليهم. الفلسطينيون جميعاً، قيادةً وشعباً، نخباً وعامة، في الداخل والخارج، صغيرهم وكبيرهم، وعالمهم وجاهلهم، ومقاتلهم ومرابطهم، ومدنيهم وعسكريهم، نساؤهم قبل رجالهم، يدركون هذا الواقع، ويعرفون هذه الحقائق، ويلمسون الظروف التي تمر بها قضيتهم، ويستشعرون الخطر ويتحدثون عنه، ولا يحتاجون لمن ينبههم أو يحذرهم، ولا إلى من يوجههم ويرشدهم، فهم أدرى الناس بقضيتهم الشائكة، وأعلمهم بواقعها المرير وظروفها الصعبة، وهم يرون استعداد العدو وجاهزيته، وقوته وقدرته، وتفوقه وتميزه، وتأهبه وتحفزه، وانتهازيته وخسته، ورغم ذلك نرى القيادة الفلسطينية وقوى الثورة والمقاومة تغمض عينيها وتتعامى، وتتجاهل عدوها وتنشغل عنه بنفسها، وتتحالف مع الخصوم لتضعف بعضها، وقد باتت نهباً لمراكز القوى السياسية، وسوقاً للتنافسات الحزبية، ومعتركاً للحروب البينية، تتجاذبها الدول وتمنيها الحكومات وتعدها كاذبةً بحلولٍ ترضيها، وتسوياتٍ تناسبها. لعل المرحلة التي نعيش هي الأكثر سوءاً في تاريخ القضية الفلسطينية، لأنها تقوم على الاحتراب الداخلي والانقسام الوطني، وتتكئ على الفساد والتآمر والخيانة والارتباط، وتفرط في الحقوق ولا تحافظ على الثوابت، ولا تقدس الدماء ولا تحترم تضحيات الشهداء، ولا تراعي قيماً وطنية ولا مصالح شعبية، حيث لا تحالفاتٍ فلسطينية صادقة، ولا تنسيق بينها جاد، ولا مصالح وطنية تجمعها، ولا عدو مشترك يوحدها، ولا مستقبل مجهولٍ يخوفها، ولا هدف مشروعٍ يقرب بينها وينسق جهودها. الحقيقة المحزنة الأيمة أنهم محاصرون ومعتقلون، وجائعون ومحتاجون، ومنقسمون ومنشقون، ومشتتون وممزقون، ومتنازعون ومتقاتلون، يُطردون من بيوتهم وتصادر أرضهم، ويحرمون من حقوقهم ويضيق عليهم في عيشهم، ويفقدون يوماً بعد آخر حجتهم في وطنهم، وشرعيتهم في بلادهم، فهم لا يستحقون بانقسامهم وطناً، ولا يستأهلون باختلافهم قدساً، ولا يليق بمثلهم الأقصى والمسرى. بينما سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي تدرك الواقع الفلسطيني، وتعرف المحيط الإقليمي والسياسات الدولية، وتعرف نقاط القوة والضعف عندها ولدى خصومها، فإنها تتمكن في كل يومٍ أكثر فأكثر، فتبني الجديد من المستوطنات، وتصادر المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتقتل على الشبهة، وتمارس الإعدامات الميدانية دون سبب، وتغرق سجونها ومعتقلاتها بآلاف الفلسطينيين من كل الفئات العمرية والجنسية، وتهود القدس وتغير معالمها العربية والإسلامية، وتخطط للسيطرة على المسجد الأقصى أو تقسيمه مكانياً وزمانياً، وتفرض حصارها على قطاع غزة وتجتاح وقتما تشاء مدن وبلدات الضفة الغربية، وتفرض على الأرض وقائع جديدة يصعب تغييرها أو يستحيل إنكارها، وهي تشعر بطمأنينةٍ وراحةٍ كبيرة، فالفلسطينيون عنها مشغولون، وبهمومهم ومشاكلهم الداخلية منهمكون، ودول العالم تسكت عنهم ولا تعارض سياستهم، ولا تقوى على منعهم أو فرض عقوباتٍ عليهم، فهناك ما يشغلها عنهم ويقلق أمنها أكثر منهم. إنه الشعب الفلسطيني الطيب المسكين، الذي يدفع الثمن ويؤدي الضريبة، ويتصدر للعدو وينوب عن الأمة، فهو وحده الذي يكتوي بنار الانقسام، ويشكو من غول الحصار، ويعيش ظلمة الانقطاع، ويعاني من نقص الدواء وقلة الطعام والغذاء، ويتألم من الجوع والعجز والفقر والفاقة والبطالة وقلة فرص العمل، وانعدام المستقبل وفقدان الأمل، في الوقت الذي لا يتأخر فيه عن التضحية والفداء، والمقاومة والجهاد، إذ يهب عند كل انتفاضة، ويلبي كل دعوة، ويشترك في أي ثورة، ويمتشق سلاحه ويواجه عدوه، وينطلق في الأرض ولا يتثاقل إليها، فلا يخاف من قتلٍ ولا يخشى الأسر، ولا يجبن عن المواجهة ولا يهرب من اللقاء، بل يتحدى ويستبسل، ويتقدم ولا يتقهقر، لكنه وحده من يصمد ويثبت، ويكابر ويعاند، ويعطي ويقدم ويضحي، ويصر على استلال القوة وصناعة النصر. لو أن هذه القيادة أخلصت وصدقت، وتجردت وزهدت، وتواضعت واعترفت، وكانت واضحةً شفافةً، صريحةً جريئةً، وأحسنت الاستفادة من شعبها العظيم، واستغلت قدراته الجبارة، ومضت وإياه في مسارٍ واحدٍ، واضحٍ وصادقٍ وصريحٍ، بما ينسجم معه ويتوافق مع أحلامه، فإنها كانت ستكون إلى النصر أقرب، وبه أجدر وأحق، ولكنها فضلت عليه مصالحها، وقدمت عليه منافعها، وغدرت به وكذبت عليه، واستغلت صدقه وتاجرت بصبره، وفرطت بحقوقه وباعت قضيته، وقطعت عنه يدها وإلى عدوها مدتها وبسطتها، فقامت على خدمته وسهرت على راحته، وسخرت قدراتها لمساعدته، وعملت أجيرةً عنده لتحرسه وتقوم على أمنه. لا تعلم هذه القيادة غير الرشيدة، التي فقدت رشدها وحادت عن دربها، وتنكبت طريقها وضلت عن حقها، واستبدلت النجوم بالكيزان، والذهب بالحصى، واللؤلؤ والمرجان بالحطب والعيدان، أن الله قد حباها شعباً عظيماً وأمةً مكابرة، وشباناً مضحين ورجالاً جسورين، وأمهاتٍ صابراتٍ وأخواتٍ مقاتلاتٍ، وإرادةً عنيدةً لا تعرف الهزيمة ولا تقبل بأقل من النصر، وتعرف كيف تصبر وتصمد، وكيف تضمد جراحها وتعض على أوجاعها، وكيف ترغم العدو وتعجزه، وتربكه وتضعفه، فهذا شعبٌ عظيمٌ قد ضرب للعالمين أمثلةً في المقاومة وعلمها دروساً في الانتفاضة، وخلد لها قصصاً من البطولة، وأدخل إلى قواميسها الثورية مفرداتٍ جديدة ومعاني عظيمة ومفاهيم سامية، فحق لهذا الشعب الأبي أن يحيا عزيزاً وأن يعيش كريماً، وأن تكون قيادته منه وتعبر عنه، تخدمه ولا تستغله، وتصدقه ولا تكذبه، وتسبقه ولا تخذله، فهذا الشعب هو الباقي، وتلك القيادة هي الفانية. —————————————————————————— بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي بيروت في 20/8/2017
مشاركة :