القاهرة: «الخليج» كان ماركيز واحداً من الذين صفقوا للثورة الكوبية 1959 وكان صديقاً لكاسترو، حتى إنه قال ذات يوم: «أريد أن يصبح العالم اشتراكياً وأظن أنه سيصبح كذلك»، فهل كان ماركيز يكتب «الأدب الملتزم»؟ لقد كان يتحفظ على «أدب الالتزام»، خاصة ما يسمى بالرواية الاجتماعية، فهو توجه لم يؤد إلى نتائج كبيرة حتى إن الناس في أمريكا اللاتينية ينتظرون من الرواية ما هو أكثر من فضح الاضطهاد والظلم، فهم يعرفون ذلك لدرجة الملل منه.قال ماركيز: «إن الكثير من أصدقائي النشطين سياسياً الذين يعيشون في إطار شعورهم بإملاء معايير الكتابة على المبدعين، إنما يتخذون موقفاً رجعياً، لأنهم يضعون قيوداً على الحرية الفنية، وأعتقد أن رواية تتخذ الحب كموضوع لها نفس الأهمية التي لأية رواية أخرى، فواجب الكاتب واجب الثوري إن شئنا قول ذلك هو أن يكتب بشكل جيد».الواقع هو مصدر الفن لدى ماركيز، ولذا يمكن تفهم مقولته: «لا تحوي رواياتي سطراً واحداً لا يستند للواقع» فوجود غير المألوف في أعماله يعود في أحد جوانبه إلى إرث إفريقي، خاصة على السواحل الكولومبية، وهو نفسه يؤكد أن رحلته إلى أنجولا عام 1978 كانت تجربة من أروع التجارب لديه، ويشير مرات عدة إلى تأثير جدته عليه في فن القصص والحبكة القصصية، وكان يرفض بشدة أن يكون العقل وحده هو المصدر الوحيد لتفسير الواقع.في ترجمته لمختارات قصصية تمتد من 1947 إلى 1992 يقدم لنا علي إبراهيم منوفي رؤية خاصة بماركيز كاتب القصة القصيرة، الذي أصدر أربع مجموعات قصصية، أولاها بعنوان «عينا كلب أزرق»، وتضم إحدى عشرة قصة قصيرة يرجع تاريخ كتابتها إلى الفترة من عام 1947 إلى 1995 أما المجموعة الثانية فتحمل العنوان التالي «جنازة الأم الكبرى» وتضم ثماني قصص كتبت كلها خلال عام 1962، أما المجموعة الثالثة فتحمل عنوان واحدة من أطول القصص القصيرة وهي «الحكاية العجيبة والحزينة لطيبة القلب إيرنديرا وجدتها القاسية»، وهي تضم سبع قصص كتبت خلال الفترة من عام 1968 حتى عام 1982 وهذه المجموعة تحمل عنواناً مغايراً أي ليس له صلة بأي من العناوين التي تتضمنها «اثنتا عشرة قصة في ترحال»، وذلك للإشارة إلى حالة الترحال والتعديل التي تعرضت لها قصص تلك المجموعة الأخيرة، ويشير ماركيز في تقديمه لهذا المجموعة الأخيرة إلى أنه قد دون ملاحظات لأربعة وستين موضوعاً، ومع ذلك فإن «فكرة الكتابة في الموضوعات المشار إليها بشكل متوال ومن خلال الالتزام بوحدة الإيقاع الداخلي والأسلوب، إنما تمثل مغامرة مثيرة إذا ما تمكنت منها»، كما يؤكد أن المجموعات الثلاث السابقة لا تربط بينها وحدة عضوية، فكل قصة مستقلة عن الأخرى، ولها لحظة إبداعها الخاصة، ومع ذلك فإن القصة القصيرة في إجمالي إنتاج ماركيز القصصي تمثل جزءاً من الوحدة العضوية لعالم القصص، الذي من دونه لا يمكن أن ندرك ملامح البدايات الأولى لهذا الإبداع أو المراحل المختلفة التي مر بها طوال حياته الحافلة بالثراء الإبداعي.تحدث ماركيز عن بعض قصصه القصيرة مثل «الحكاية العجيبة والحزينة لطيبة القلب إيرنديرا وجدتها القاسية».وقال إنها عزف على البيانو كوسيلة للوصول إلى الأسلوب الذي استخدمه في الكتاب الجديد، وفي سياق آخر يشير إلى أن الجهد الذي يبذل في كتابة قصة قصيرة كبير للغاية «وكأن المرء مقبل على كتابة رواية»، إنها عملية إبداعية تأخذ في اعتبارها كافة العناصر التقنية الخاصة بالقصة القصيرة كنوع أدبي، وهناك أمر آخر يتعلق برؤية ماركيز للقصة القصيرة، فهي عنده ليس لها عدد معين من الصفحات، أو كيفية البداية، أو ما هي خاتمة القصة إلى آخر تلك الملامح التي يرددها النقاد، فقصص ماركيز تتسم بالبساطة، وعدم التعقيد في البناء الفني، إلا أن كتابته لها تأثيرها العميق حتى قبل أن ينال هذا القسط العظيم من الشهرة.ضمن تلك المجموعة من القصص التي ترجمها د. على المنوفي إلى العربية قصة بعنوان «جئت لأتصل بالتليفون فقط»، عن سيدة من أصل مكسيكي تعيش في إسبانيا، وتتعطل سيارة الأجرة التي كانت تقودها متجهة بها إلى برشلونة «ذات مساء ممطر من أمسيات الربيع»، وتحاول العثور على وسيلة الاتصال بزوجها فتعثر على أتوبيس خاص مملوء بسيدات يتم اقتيادهن إلى مستشفى الأمراض العقلية وسط الغابات، وهو مبنى كان ديراً في الأصل، فتعامل على أنها واحدة من نزيلات المستشفى، وتحاول بكل جهدها التخلص من هذا العذاب وتلك المعاملة، وتتمكن من الاتصال بزوجها بالتليفون فيحضر لكنه لا يستطيع إخراجها، فقد أقنعه مدير المستشفى بأنها مجنونة، وعندها هوس بالتليفون، والبحث عنه للخلاص، وعند ذلك تحدث القطيعة الفعلية بينهما، فقد انضم إلى صفوف القهر التي لا يصلح معها أي شيء من محاولات التجميل، مثل ذهاب الزوج كل يوم سبت للتسرية عن النزيلات من خلال ألعابه البهلوانية، فالكارثة أكبر من محاولة تجميلها.
مشاركة :