لن يكون من الصعوبة بمكان فهم الأسباب التي جعلت الرسام الفرنسي إدغار ديغا يهتم خلال مرحلة من مساره الفني، برسم العديد من اللوحات التي تمثل عاملات الكوي في الأحياء الباريسية البائسة. ففي السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر كانت الفنون والآداب، وغالباً كرد فعل على الإنطباعية في الرسم والنزعات الرومانسية في الأدب، أمعنت في اهتمامها بالحياة الشعبية وممارسات أبناء الطبقات العاملة في حياتهم اليومية، وذلك في شكل لافت تحت تأثير النزعة الطبيعية في الأدب التي أوصلها إميل زولا الى ذروتها لا سيما في سلسلته الروائية «روغون - ماكار». ففي ذلك الحين، وإذ تلت هزيمة الكومونة انبعاثة للإهتمام الثقافي بالكادحين رغم «هزيمتهم»، راحت الفنون تجد نوعاً من التعويض على هؤلاء في إحاطتهم باهتمام إبداعي منتزع من الحياة اليومية. والحال أن قراءة واحدة من أكثر روايات إميل زولا شعبية في ذلك الحين، «المهلك» L’ASSOMOIR، تكشف لنا اهتماماً خاصاً بممارسات مهنة الكوي من خلال توقفه طويلاً في حانوت مكوى «جرفيز». ومن المنطقي القول هنا إن الفنانين من الذين قرأوا الرواية أدركوا البعد البصري الرابط بين قوة التعبير ونصاعة الديكور ذي اللون الأبيض غالباً وكون العاملات في مثل تلك الأماكن دائماً من النساء الممارسات المهنة في نوع من وحدة مضجرة حتى لو اشتغلن اثنتين معاً. وهنّ بالطبع نساء بائسات لكن عليهن أن يتعبن وسط اشتغالهن على افخم الأقمشة لتوفير لقمة العيش. > والحقيقة أنه لئن كان غوستاف دوريه من أوائل الرسامين الذين التقطوا رسالة إميل زولا محوّلين شخصية الكاوية الى موضوع للوحة، فإن غوستاف دوريه سيكون الى جانب كميل بيسارو، الأبرز من بين العديد من الرسامين الذين سيلتقطون الموضوع بدورهم ليحولوه لوحات تنبض بالكدّ وبالحياة. ولعله سيكون من المفيد هنا أن نشير الى أن بابلو بيكاسو حين قارب لاحقاً موضوع الكاوية، إنما استوحى ديغا مباشرة إذ وجد لديه قوة التعبير التي كان يبحث عنها. > بين العامين 1869 و1895 جعل ديغا من موضوعة الكوي والكاوية واحداً من موضوعاته الأثيرة. وذلك بالتناقض التام، إجتماعياً وفكرياً، مع الموضوع الأثير الآخر الذي اشتهرت به أهم لوحاته الى درجة أن المرء اليوم ما إن يؤتى أمامه على ذكر ديغا حتى ترد الى ذهنه عشرات التحف الفنية التي تمثل راقصات الباليه في ثياب الرقص التقليدية وهن في تمارينهن أو عروضهن أو وحدة حياتهن اليومية. والحقيقة أن من يعرف أعمال ديغا الراسمة لراقصات الباليه ومدربيه، لن يخطر في باله أن رسام تلك الأجواء المرفهة والأنيقة، سيكون هو نفسه رسام تينك العاملات البائسات وهن في ذروة انهماكهن في الكوي أمام المكاوي الحارة والثقيلة يحاذرن أي خطأ قد يحرق القماش ويقضي عليهن مهنياً. غير أن من سيراوده مثل هذا التفريق لن يكون عارفاً، في الحقيقة، إلا بجزء من مسار ديغا المهني واهتماماته الاجتماعية. فالرجل كان في حقيقة أمره، وانطلاقاً من واقعية فنية سار على دربها مبكراً، وفي وقت لم تكن فيه للواقعية سوقها بعد، كان رساماً شعبياً بامتياز ومن المعروف انه كثيراً ما رسم أهل بيته وأصدقاءه قبل أن يغوص في الحياة الباريسية هو الذي كان قد اكتشف الفن الواقعي على أي حال في نيو أورلينز بالولايات المتحدة الأميركية حين قصدها شاباً ليهتم بتجارة القطن الخاصة بعائلته وينهل من تلوين أميركي واقعي سيظل من علامات فنه حتى النهاية ومن مواضيع اجتماعية رسمها هناك وكانت ذات تجديد لافت في الفن الفرنسي لاحقاً. > إذاً، حين انصرف إدغار ديغا الى رسم تلك المجموعة الكبيرة من لوحات «الكوي»، كان كل شيء لديه يعدّه لذلك الاهتمام. ونعرف انه رسم ما لا يقل عن أربع عشرة لوحة تمثل شتى أنواع حالات مهنة الكوي. بيد أن ما لا ينبغي أن ننساه هنا هو أنه إذا كان ديغا رسم في معظم تلك اللوحات عاملات كوي حقيقيات، فإنه لم يتوان في بعض الحالات عن الاستعانة بموديلات جعلهن يمثلن الدور. وهذا ينطبق على سبيل المثال، على الموديل المعروفة إيما دوبينيي التي رسمها في واحدة من أولى لوحات تلك المجموعة، «الكاوية» (1869). والواقع أننا إذا نظرنا الى هذه اللوحة لن نقتنع كثيراً بأن أمامنا حقاً كاوية حقيقية. فالوجه مرتاح ولا مجال للإحساس بأي جهد ناهيك بأن النظرة التي تلقيها المرأة خارج إطار ما هي منشغلة به، تبدو فارغة من أي معنى. ولعل هذه النتيجة هي التي جعلت ديغا يفضل بعد ذلك رسم العاملات مباشرة. > صحيح أن هذا قد لا ينطبق على كل اللوحات الباقية، لكنه ينطبق بالتأكيد على اللوحة التي نحن في صددها هنا وهي المعنونة «الكاويتان» والتي رسمها ديغا بين 1884/1886 وتوجد معلقة اليوم في متحف الأورساي الباريسي. فهنا، في هذه اللوحة التي لا يزيد عرضها على 81 سم وارتفاعها على 76سم، لدينا عاملتا كوي تجهد إحداهما مع انحناءة الظهر الشهيرة الخاصة بهذه المهنة - والتي سيوصلها بيكاسو الى ذروة قوتها التعبيرية في لوحته «كاوية» (1904) - وهي تضغط على القماش، فيما الثانية واقفة الى جانبها تتثاءب لتنشط نفسها بعض الشيء في وقفة استراحة كما يبدو، إذ من الواضح هنا أن ثمة نوعاً من التبادل بين العاملتين. أما الألوان فباردة توحي بنوع من العزلة والسأم من عمل مهلك من الواضح انه لا يقي كثيراً من الجوع. ولعل علينا أن نلاحظ هنا أن الألوان التي تهيمن على هذه اللوحة - التي تعتبر على أي حال، بورتريه مزدوجة - هي ذات الألوان التي اعتادت أن تهيمن لدى ديغا نفسه على لوحات راقصات الباليه وباتت في نهاية الأمر وكأنها توقيع من جانب هذا الرسام. > كما أشرنا، رسم ديغا ما لا يقل عن أربع عشرة لوحة حول هذا الموضوع نفسه. وكانت على رغم وحدة موضوعها، لوحات بالغة التنوع حيث أن الرسام عرف كيف يلتقط حياة الكاويات وجهدهن المهني في شتى تجلياتها. فصور الكاويات فرادى وأزواجاً وربما مجموعات. رسمهن مواجهة وفي لقطات من أعلى. رسمهن وهن يجهدن ويسترحن ويتثاءبن وتحت تأثير إضاءة مباشرة أو إضاءة جانبية. أو حتى رسمهن والإضاءة آتية من خلفهن تخفي ملامحهن. بل إنه، حتى بالنسبة الى اللوحة التي نحن في صددها هنا، والتي تمثل كاويتين معاً، رسم اربع تنويعات متقاربة في ما بينها إنما ذات فروقات فنية لا تفتقر الى الأهمية الأسلوبية. وبالنسبة الى هذه اللوحة تحديداً لم يقرر دارسو عمل ديغا ما إذا كان رسم هنا كاويتين حقيقيتين أم انه جاء بموديلين ليرسمهما. لكن الدارسون قالوا إن الاختيار كان موفقاً في كلا الحالين. حيث أن تصوير التناقض في بيئة واحدة بين استرخاء واحدة من العاملتين وتوتر الأخرى، إنما ذهب الى أبعد من مجرد تصوير لوضعية بيئة محددة: حيث انه عرف كيف يعبر عما كان ديغا مهتماً به في ذلك الحين من الاستلاب المهيمن على الوجه الآخر للحياة المدينية. وهو هنا في هذا الإطار كان يبدو ايضاً سائراً على خطى إميل زولا الذي كان أهمّ ما همّه تصوير ذلك الاستلاب في أدبه... > غير أن ديغا (1834 - 1917) لم يصوّر هذا، فقط من طريق الكاويات ولا من طريق راقصات الباليه، بل من طريق قطاعات عريضة من العاملين والعاملات في المجتمع، هو الذي ولد وترعرع في باريس التي كانت تشهد كل أنواع التغيرات الاجتماعية، ودرس الرسم في نابولي وروما ثم أحوال المجتمع الإقتصادية في الولايات المتحدة الأميركية وشارك في الحرب الألمانية - الفرنسية التي أسفرت عن الكومونة، ليبدأ مشاركته الحقيقية في الحياة الفنية الباريسية في تلك الفترة بالذات في شكل متواضع أول الأمر ثم في شكل صاخب بدءاً من شراء لوحته «كونتوار القطن» الأميركية وعرضها في متحف بو لينطلق بعد ذلك بأعماله التي عانقت الحياة الفنية والإجتماعية والأدبية طوال سنوات بإنتاج مكثف لم يوقفه إلا فقدانه بصره في شكل تدريجي حتى توقف بصورة نهائية عن الرسم بالزيت منصرفاً الى كتابة الأشعار التي استعاد فيها مواضيع لوحاته ذاته.
مشاركة :