تتقاطر قوافل الحجيج وطلائع وفود الرحمن على بيت الله الحرام من أصقاع الأرض البعيدة والقريبة ملبية دعوة نبي الله إبراهيم «وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ»... ها هم مئات الألوف تحملهم السيارات والطائرات والسفن والباخرات، وتزدحم بهم الموانئ والمطارات، جاءوا إلى الأراضي المقدسة يدفعهم الإيمان ويحدوهم الشوق والحنين، ويحفزهم الأمل للفوز بالمغفرة والرضوان. الحج تلك الفريضة الخامسة من دعائم الدين الإسلامي والتي لم يفرضها الله تعالى إلا على المستطيعين من عباده فيها الكثير من الدروس والعبر المستوحاة منها تنبئك بحكمة الخالق سبحانه، وتظهر لعباده أن من فرض عليهم تلك الفريضة في زمن معلوم، ووقت محدود، ومكان واحد؛ ليكون أكبر تجمع يمثل الوحدة الإسلامية على مختلف شعوبها واختلاف لغاتهم، ويكون مؤتمراً سنوياً للأمة الإسلامية؛ تلتقي فيه الأفئدة والقلوب، وتذوب فيه كل أشكال النعرات العنصرية بين آحاد الأمة الإسلامية، ويتساوى فيه الناس جميعًا؛ فيذكرهم بيوم الحشر والنشر بين يدي الله تعالى. كما أن الوحدة بين أفراد الأمة نرى معناها في الحج جليًّا كوضوح الشمس وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر ووحدة في الهدف والقول والعمل لا إقليمية ولا عنصرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة بعينها؛ كما هو مرفوض في الإسلام. والهدف الإلهي من وراء بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة كان إعداد مركز لأهل التوحيد يؤمه الناس من قريب وبعيد، وهيأ الله أسباباً تاريخية حول الكعبة لتنجذب إليها قلوب الناس فيقصدوها جماعات وأفواجا.. فبيت الله هو المركز الإسلامي العالمي إلى يوم القيامة، وهو مقر الاجتماع العالمي السنوي لكل مسلمي العالم، ولذا تقول الروايات إن الله تعالى أمر إبراهيم بأن ينادي في الناس بأن يأتوا هذا البيت زائرين فقال: يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا يصل إليهم فقال: ناد وعلينا البلاغ. فقام على الحجر وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجـّوا إليه. فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وسمع من في الأرحام والأصلاب وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ،ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك. فقد كان النداء الإبراهيمي بدءا لواقعة مستمرة لا تنقطع. فأطلق إبراهيم نداءه في عصره، وأخذه الآخرون من بعده فأسمعوه لمن في عصرهم، وهكذا استمر هذا العمل جيلا بعد جيل، وعندما جاء عصر الصحافة والإذاعة انتشر هذا الصوت على مدى أكبر، فجاوز الجبال والبحار حتى تلاشى الخوف من أن يوجد على وجه البسيطة من لم يصله هذا النداء الإبراهيمي. وحين يقترب الناس من مقام الحج يتخلون عن ملابسهم المحلية ويرتدون لباس الإحرام المشترك الذي يتكون من ردائين أبيضين، يتزر الحاج أحدهما ويضع الآخر فوق كتفه وظهره، وهكذا ترى مئات الألوف من البشر في وضع واحد ولباس واحد، يجتمعون على صعيد عرفات الطاهر مجسدين الوحدة العقائدية في أبهى صورها ،فهاهم على اختلاف لغاتهم وألوانهم ومراتبهم ينصهرون في قومية واحدة جامعة هي قومية الإسلام... دين الله الخاتم. وقد ارتبط تاريخ الحج بحياة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وليس المسلمون وحدهم هم الذين يؤمنون بهما بل يعتبرهما أتباع الأديان الكبرى الأخرى أيضاً من أجل الرسل، فقد جعلا الله الواحد مرجعهما الأوحد، بدلاً من التوجه إلى آلهة المشركين، وقاما ببناء بيت الله الكعبة ليكون مركزاً عالمياً لعبادة الله الواحد الأحد، وهذا المركز هو مكان أداء مناسك الحج أيضاً. وإذا نظرنا في بعض جوانب الحج بدءاً من الكلمات التي يرددها الحاج وهي الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، والله أكبر ولله الحمد، سنجد أنهم يرددونها مرة بعد أخرى بهدف توليد نفسية معينة فيه تعي أن العظمة لله وحده. ويجب على كل جوانب العظمة الأخرى أن تنحني أمام هذه العظمة الكبرى وأن تتبعها. ويأتي الطواف حول الكعبة حين تطأ الأقدام مكة كإقرار عملي بأن الإنسان سيجعل نقطة واحدة محور كل جهوده، وأنه سيتحرك في دائرة واحدة.. وهذه هي المركزية التي نشاهدها على المستوى المادي في النظام الشمسي فكل سيارات النظام الشمسي تطوف حول مركز واحد هو الشمس.. وهكذا يعلمنا الحج أن نجعل عبادة الله الحقة الشاملة مركز كل حياتنا ،فندور حولها وفي دائرتها. ليأتي السعي بين الصفا والمروة لنتعلم من الأشواط السبعة بينهما أن يكون مسعانا في حياتنا العملية داخل حدود معينة، فلو لم تكن لنا حدود أو ظللنا نتجاوزها فسينفلت بعضنا إلى جانب ،بينما سيضيع البعض الآخر منا في جانب آخر، ولكن عندما نضع حدوداً معينة لمسعانا فنحن سنعود دوما إلى حيث إخواننا الآخرين. والحج في حقيقته مسيرة نحو الله فعامة البشر سيمثلون أمام ربهم بعد الموت، ولكن المؤمن يمثل بين يدي ربه قبل أن يأتيه الموت، فحضور الآخرين أمام الله حضور المجبور الذي لا حيلة له، أما حضور المؤمن فباختياره وهذا هو المنظر الذي يقدمه اجتماع الحجاج من كل أنحاء العالم في ميدان عرفات، ولعله لهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحج عرفة»، والجانب الحقيقي لحضور عرفات يتعلق بالآخرة، إلا أن السر العميق لوحدة أهل الإسلام كامن فيه في الوقت نفسه، وذلك لأن الوحدة هي التجمع حول مركز واحد، وحين يتجمع المسلمون حول ربهم خلال الحج فهم يكتشفون كذلك سر تحويل كثرتهم العددية إلى وحدة إنهم يكتشفون أسرار دنياهم بينما هم يتلقون أسرار أخراهم. ذلك اليوم الذي تلتقي فيه نفحات السماء بالأرض، وتتساوى فيه الرؤوس، وتنبذ فيه كل أنواع الشرك والكبرياء؛ فلا تقديس ولا تعظيم ولا تبجيل إلا لله الواحد الأحد، إنه يوم عرفة الذي أكمل الله فيه لهذه الأمة أمرها؛ ورضي لها الإسلام دينًا؛ فلا تبديل ولا تحريف لكلمات الله، قال تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا». إنه يوم أبان فيه الرسول لهذه الأمة مناسكها، وحرم فيه الدماء والأموال إلا بالحق، وبيَّن فيه مضامين صون الحقوق والأعراض، وأعلن فيه المساواة بين البشرية (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وأقر فيه حقوق الإنسان وكرامته قبل أن يعرفها الغرب المفتري وأعوانه الذين يجهلون التاريخ عنوة وتكبرًا، ويكيدون العداء للإسلام حسدًا وتحسرًا. ولكن تأتي فريضة الحج والآيات المنزلة فيه لتقطع عليهم الطريق؛ فلا ينالون من هذا الدين الإسلامي طالما أن الأمة تتمسك بمنهجه القويم، وتقيم شعائره بإخلاص وإيمان؛ فيعلنها الرسول مدوية بحق عبر الوحي القرآني {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3].. يقول أحد النصارى عن مدى جدوى التنصير في البلاد الإسلامية: (سيظل الإسلام صخرة عاتية تتحطم عليها سفن التنصير النصرانية ما دام للإسلام هذه الدعائم: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي). نعم.. إنها شهادة الأعداء بعد أن يئسوا من ذلك الدين، وسيظل الإسلام هكذا، صخرة عاتية تتحطم عليها كل سفن الكفر والإلحاد، وما تحمله من مؤامرات ودسائس لهذا الدين الحنيف، رغم أنف الأعداء؛ بفضل منهجه القويم، وشرائعه الربانية التي أكملها الله لعباده يوم الحج الأكبر؛ يوم عرفة، الذي يجب على الأمة الإسلامية أن تتذكر فيه تلك النعم، والعناية الربانية لها، بأن أنعم الله عليها بالإسلام، وارتضاه لها ربنا، وحفظه من التبديل والتحريف، فيعملوا جاهدين على توحيد الأمة الإسلامية، وجعله واقعاً معاشاً بينهم في كل نواحي الحياة. فوحدة الأمة منهج رباني، وهدي نبوي، جاء به الإسلام، وأرساه قيمًا، وسلوكًا، وعملاً، وعبادة في كل نواحي الحياة؛ فما من عبادة، أو خلق إسلامي، أو أمر دنيوي إلا وتجد فيه الدعوة إلى الوحدة، والتوحيد، وتجسيد روح الترابط، والمساواة بين الأمة.
مشاركة :