في التاريخ الإسلامي، جرى التعامل مع الرؤيا المنامية عموماً، على كونها ظاهرة غيبية تختلف اختلافا تاماً عن الأحلام والكوابيس الاعتيادية، وساد الاعتقاد بإن الرؤيا هي نوع من أنواع الاتصال الروحي بالعالم العلوي الغامض. وقد وصفها الرسول بحسب ما ورد في كتب الحديث بأنها امتداد للنبوة والرسالة، فقال: "الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي لكن المبشرات"، فسأله أصحابه عندها، يا رسول الله وما المبشرات؟ فقال: "الرؤيا الحسنة يراها الصالح أو ترى له". وقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم، عدد من الأحاديث النبوية التي تؤكد على إمكانية رؤية الرسول الكريم في المنام، ومن ذلك قوله: "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي". وقد استخدمت مسألة رؤية الرسول في المنام كثيراً من قبل الحكام والسلاطين والعلماء، حيث برروا عن طريقها الكثير من مواقفهم وأفعالهم في بعض الأحيان، بل وتم استخدامها من قبل بعضهم في سبيل الحصول على شرعية سياسية لحكمهم أو للمحافظة على تلك الشرعية في أحيان أخرى.رؤيا عثمان والشرعية السياسية في أواخر عام 35هـ/ 656م، تجمع المئات من الثوار المعارضين لحكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وأحاطوا بداره في المدينة المنورة، وقطعوا عنه الماء والطعام وطالبوه بالتخلي عن السلطة والخلافة. الثورة التي عُرفت بعد ذلك باسم الفتنة أو ثورة الأمصار، تمخضت في النهاية عن اقتحام منزل الخليفة وقتله أثناء قراءته للقرآن الكريم. من أهم الروايات التي وردت في كتب أهل السنة والجماعة، والتي حاولت أن تدافع عن عثمان، وتظهر مظلوميته واستشهاده، ما نقله الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك، عندما ذكر أن عثمان قد ذكر لبعض أنصاره قُبيل مقتله، أن الرسول الكريم قد زاره في منامه، وسقاه حتى أرتوى، وبشره بالشهادة والجنة. وبغض النظر عن صدق تلك الرواية من عدمه، فأنه من الواضح أنها قد حاولت أن تبين سلامة موقف عثمان، وأن تؤكد على شرعيته السياسية التي حاول الثوار انتزاعها عنه.كيف شرعنت رؤيا الرسول لموقف ابن حنبل في المحنة؟ لم تقتصر الروايات الواردة في رؤيا الرسول في المنام، على الاهتمام بالنواحي السياسية فحسب، بل أنه أيضاً كثيراً ما تم استخدامها لإعطاء شكل من أشكال الشرعية الدينية والعلمية أيضاً. أهم الأمثلة على ذلك، تزامن مع ما عُرف في التاريخ الإسلامي، بمحنة خلق القرآن، عندما تم اجبار جميع العلماء والفقهاء على القول بمذهب المعتزلة في تلك المسألة. يذكر تاج الدين السبكي في كتابه طبقات الشافعية الكبرى، واقعة مهمة، وهي أن الرسول قد زار الإمام الشافعي في المنام وقال له اكتب إلى أحمد بن حنبل، فاقرأ عليه السلام وقل له إنك ستمتحن وُتدعى إلى خلق القرآن فلا تجبهم فيرفع الله لك علماً إلى يوم القيامة. الرواية التي يوجد شك كبير في مصداقيتها، حاولت أن تصحح موقف ابن حنبل في زمن المحنة، وأن تُرجع هذا الموقف لقول الرسول الكريم نفسه، وذلك لشرعنة وجهة نظر الإمام الرابع، والتي سرعان ما ستصبح الرأي الرسمي والمعتمد عند عموم المسلمين من أهل السنة والجماعة بعد فترة قصيرة.الرسول ينقذ حفيده من الحبس التراث الشيعي الإمامي الإثناعشري يمتلئ كذلك بالعديد من الروايات التي تتعلق برؤية الرسول في المنام، من أهم تلك الروايات ما ورد في بعض المصادر التاريخية، ومنها مروج الذهب ومعادن الفضة للمسعودي، أن الخليفة العباسي هارون الرشيد قد سجن الإمام الشيعي السابع موسى الكاظم، فلما طال وقت الحبس واشتدت المحنة بحفيد الرسول، ظهر له جده في المنام وعلمه دعاء جاء فيه "يا سامع كل صوت، ويا سابق الفوت، ويا كاسي العظام لحماً ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع علیه أحد من المخلوقين، يا حلیماً ذا أناة لا يقوى على أناته، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصى عدداً، فرج عني". وتقول الروايات إن الكاظم لما دعا الله بذلك الدعاء، فرج عنه همه، حيث رأى الرشيد في منامه بعض الأحلام المزعجة والكوابيس التي هددته إن لم يطلق سراح موسى الكاظم، فسارع بالإفراج عنه وسمح له بالرحيل إلى المدينة وأعطاه ثلاثين ألف درهم.نور الدين محمود: بطل الشام والمدافع عن قبر الرسول أحد أشهر القصص التي ارتبطت برؤية الرسول في المنام، هي تلك القصة التي يذكرها المؤرخ علي بن عبد الله السمهودي في كتابه وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى. يذكر السمهودي أنه في عام 557هـ/ 1161م، رأى نور الدين محمود حاكم حلب ودمشق، الرسول في منامه، وأنه كان يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: أنجدني، أنقذني من هذين. وتكررت هذه الرؤيا أكثر من مرة، فسافر نور الدين إلى المدينة المنورة، وجمع أهلها ووزع عليهم الأموال والأعطيات، وفتش فيهم حتى عثر على الرجلين اللذين شاهدهما في منامه، فاستجوبهما استجواباً شديداً حتى اعترفا له في نهاية المطاف، بأنهما ليسا مسلمين، وأنهما قد قدما إلى المدينة لحفر نفق إلى قبر الرسول، وسرقة جثمانه الشريف. وبعد أن قتل نور الدين الرجلين، أقام خندقاً عظيماً حول الحجرة الشريفة كلها، ورجع إلى بلاد الشام. ولعل تلك الرواية، قد كانت من أهم الأسس التي قامت عليها الشعبية الكبيرة لنور الدين في عصره وفي العصور التالية، حيث ترافقت تلك القصة مع أخبار جهاده المستمر ضد الصليبيين، لتصنع منه بطلاً شعبياً عظيماً، لكونه يدافع عن رسول الإسلام تارة ويجاهد أعدائه تارة أخرى.رؤيا سليمان القانوني: عندما أعطى المنام شرعية للتوسع العثماني في عهد السلطان سليمان القانوني، وصلت الدولة العثمانية إلى أوج سطوتها ومنتهى قوتها، فكانت دولة عظمى، تخشاها القوى الأوروبية الكبرى، وتتحاشى الاصطدام بها. في تلك الظروف، كان المناخ مناسباً لاستكمال عمليات الفتح والغزو في بلاد أوروبا المتاخمة للعثمانيين، فتوجهت أنظار القانوني إلى بلاد صربيا ذات الموقع الاستراتيجي المهم والغنية بالموارد البشرية، وجزيرة رودس المتحكمة في تجارة البحر المتوسط، كما أنه في الوقت ذاته قد قرر أن يستعيد العراق من يد الصفويين الذين استولوا عليه. في هذا الوقت تحديداً، بدأت قصة الرؤيا التي باركت للسلطان القانوني في الانتشار، حيث أنّ الرسول قد بشره فيها بفتح تلك البلاد وقال له: "إذا ما فتحت قلاع بلجراد ورودس وبغداد، فقم بإعمار مدينتي". ومن المؤكد أن تلك القصة قد أعطت شرعية كبيرة لأعمال العثمانيين التوسعية، حيث أكدت على البعد الجهادي فيها، وكونها نوع من أنواع التضحية في سبيل الله.رؤيا قطز: تبرير الانقلاب والاستيلاء على الحكم كان عصر المماليك، عبارة عن سرديات متشابهة متوالية، فهي دائماً ما تبتدئ بوصول أحدهم إلى العرش عن طريق التغلب والقوة، وكثيراً ما تنتهي بخلعه من منصبه بعد أن يتمكن منه الضعف والوهن. فإذا ما رجعنا للكيفية التي وقع فيها الانقلاب الأول زمن المماليك، لوجدنا أن السلطان الشهير سيف الدين قطز، كان هو أول من استن تلك السنة السيئة، كما كان أول من اكتوى بنيرانها. قطز الذي ترجع أصوله إلى بلاد الترك في أسيا الوسطى، استغل ضعف وصغر سن نور الدين علي بن أيبك، فخلعه من الحكم وأعلن نفسه سلطاناً على الديار المصرية. ولكن لما كانت القوة وحدها لا تكفي، فقد روج قطز أنه قد رأى الرسول الكريم في المنام في صغره، وأنه قد بشره قائلاً "أنت تملك الديار المصرية، وتكسر التتار". وبموجب تلك البشارة، التي أوردتها الكثير من المصادر التاريخية السنية مثل البداية والنهاية لابن كثير، وشذرات الذهب في سيرة من ذهب لابن العماد الحنبلي، تم اقرار شرعية قطز السياسية، وتم التمهيد لنصره العظيم على جحافل المغول في معركة عين جالوت في 658هـ/ 1260م، بحيث ظل هذا السلطان حتى الأن نموذجاً ومثلاً يُحتذى في المخيلة الإسلامية، وتم تخليد ذكراه في العديد من الأعمال الابداعية والأدبية.عندما عبر الرسول قناة السويس! مسألة رؤية الرسول في المنام، بكل ما يرتبط بها من دلالات وإشارات سياسية، لم تقتصر على العصور القديمة فحسب، بل إنها شغلت حيزاً كبيراً في التاريخ الحديث والمعاصر أيضاً. مما يؤكد ذلك ما ذكره الدكتور إبراهيم عوض في كتابه عبد الحليم محمود... صوفي من زماننا، حيث يذكر أنه قُبيل حرب السادس من أكتوبر 1973م، أن شيخ الأزهر وقتها، عبد الحليم محمود، قد أخبر المقربين منه أن الرسول الكريم قد زاره في المنام، وأنه رآه يعبر قناة السويس قائداً للجنود. ويذكر عوض في كتابه، أن شيخ الأزهر قد قص تلك الرؤيا على مسامع الرئيس محمد أنور السادات، فكان لها دور كبير في تشجيعه وطمأنته لاتخاذ قرار الحرب. ورغم أن قصة المنام قد انتشرت بشكل كبير ما بين أفراد الجيش، وكان لها دور كبير في رفع روحه المعنوية، إلا أنها في الوقت ذاته قد تسببت في إحداث موجة كبيرة من الجدل بين أوساط المثقفين وقتها، فعلى سبيل المثال استنكر الفيلسوف الكبير فؤاد زكريا تلك القصة جملة وتفصيلاً، وعدّها نوع من أنواع التفكير اللاعقلي الذي انتشر في المجتمع المصري بعد نكسة يونيو 1967م. المصادر والمراجع: تاريخ الرسل والملوك لابن جرير الطبري؛ طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي؛ مروج الذهب ومعادن الفضة للمسعودي؛ وفا الوفا بأخبار دار المصطفى لعلي بن عبد الله السمهودي؛ البداية والنهاية لابن كثير؛ شذرات الذهب في سيرة من ذهب لابن العماد الحنبلي؛ عبد الحليم محمود... صوفي من زماننا لإبراهيم عوض. محمد يسري باحث في التاريخ الإسلامي والحركات السياسية والمذهبية، صدر له عدد من الدراسات والكتب المنشورة، منها الحشيشية والمهدية التومرتية، وثورة الأمصار: قراءة تحليلية في الروايات التاريخية. محمد يكتب بشكل مستمر لرصيف 22. كلمات مفتاحية الأحلام الإسلام التراث الثقافة الشعبية التعليقات
مشاركة :