ذات ليلة صيفية بعد منتصف الليل، الجو بارد على عكس نهار عمان الحارق، صوت هادئ لأغنية تبدو بعيدة من شرفات أحد المنازل في الحي "مولاي لم تبقِ منّي سوى رمقين" أنصت قليلاً يبدو أن هناك شخصاً ما يترنم بسماعها. ربما كان سماعه لهذه الكلمات كونه يعيش في حالة مضطربة.. ربما فقد شيئاً غالياً، شيئاً ما يحبه لحد الجنون، أو ربما يختلف عما خطر ببالي للوهلة الأولى، فكل منا فقد شيئاً جعله يتشبع بجرعة من الوجع والألم. أصغِي بعمق أكثر وكلي آذان صاغية "إن كنت تقصد قتلي، قتلتني مرتين"، أنا الذي حولت كل شيء إلى وطن، وأنا الذي أرفض أن أكتب عن شيء أو لشيء غير الوطن، فلقد قتلت لأجله مرتين. لا أدري كيف جاءت هذه الكلمات من ذلك الشخص المجهول الذي يترنم في آخر الليل، بزوابع وعواصف من الوجع، لقد أعادني وأجبرني لأفتح أوراقي التي قررت إغلاقها علّي أَهنأ بقليل من الراحة في غربتي. لكن على ما يبدو أنه لا مهرب من الذاكرة، "إذا كانت لك ذاكرة قوية.. وذكريات مريرة.. فأنت أشقى أهل الأرض"، ولماذا هذا الشقاء؟ وأنا الذي أحاضر كل يوم بالسعادة والتخلص من الألم، ربما هذا هو طبع فينا، نريد أن نشارك الجميع الابتسامة ونخفي آلامنا لنا وحدنا، أو ربما هو عادة المجتمع الذي تربيت فيه. لكن أعادتني تلك الكلمات العابرة من بعيد إلى ذاكرة الموت، جعلتني أتذكر كيف قتلت مرتين وما زلت أنازع الحياة، فإما أن تغلبني أو أغلبها، هو صراع بيني وبينها لا أحد يكترث لعواقبه فالحياة تمضي وتدور لا يهمها موت فلان أو حتى حياته. كانت الأولى حينما خرجت مرغماً من أرضي، هارباً من الموت والاعتقال، كنت أظن حينها أنه الامتحان الأخير لي مع الحياة، وبعدها ربما أموت على أسلاك الغربة وأسوارها أو أعبّر بسلام معلناً انتصاري. لم أكن أعلم أنه هذا الامتحان هو البداية لمرحلة جديدة لمرحلة صراع طويل مع الموت، كانت السكين على ما يبدو ليست كافية لقتلي ولا هي أبقتني أحيا بسلام، كانت تجرح ولا تقتل، وكلما اِلْتَأمَ الجرح قليلاً عادت لإيلامه مرة أخرى. حينها أصبح الكلام هو أكثر ما يمكن أن أواجه به في معركتي، فموقفي بات أشبه برسالة غسان كنفاني لغادة السمان "ولكن قولي لي: ماذا يستحق أن نخسره في هذه الحياة العابرة؟ تدركين ما أعني.. إننا في نهاية المطاف سنموت"، إذاً هو الموت لا مفر منه، فلماذا نقاوم؟! لماذا علينا أن نموت على دفعات؟ ولماذا لا نموت مع أول ضربة؟ لماذا نقرر المواجهة في معركة خاسرة مع الحياة، فحتى قاتل غسان ظن أنه تمكن من قتله اغتيالاً، لكن لو سمع مقولته لغادة "ويبدو أن هناك رجالاً لا يمكن قتلهم إلا من الداخل" لعلم أن غسان كان ميتاً من الداخل قبل أن يموت من الخارج، لقد كان جثة بلا حياة، تماماً كما نصارع اليوم لإظهار أننا ما زلنا على قيد الحياة. لست أتحدى القدر ولا أعترض على ذلك - مَعَاذَ الله من ذلك - لكن هي رسائل لجلادي أعلن فيها حياتي من جديد، فما زال لديّ بقايا روح أحيا بها، ورمق أخير أصارع به حتى أنال مرادي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :