أن نغرق أو لا نغرق

  • 9/4/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كنا يوما نهرب إلى الخيال، نبحث عن الجمال، عن الطبيعية، عن كل ما تقدمه الحياة من مغامرات، مخاوف، أفراح، خبرات جميلة، وأخرى حزينة، أو حتى مخيفة، بعضها يظهر في سلوكياتنا، والبعض الآخر ينسحب إلى اللاوعي، ويبدأ في نثر إضاءاته أو برقه ورعده حالما نسترخي ونغمض الأعين، ونسبح في بحر الأحلام. واليوم، بعد أن غرقنا في هذا العالم الافتراضي الذي ندخله بإرادتنا، ونحن نعلم مدى عمقه، مدى جماله، مدى قبحه، مدى إدماننا عليه، نجد أن شيئا ما قد سُرق منا، هل هي الخصوصية، هل هو التواصل الحي، أم هو راحة البال؟ هل هي البساطة وصفاء النية أم الإنسانية؟ إن أردنا يوما أن نتواصل، نزور ونسأل ونجتمع. الآن، لا يهم طالما أن كل شيء تقريبا عن الآخر معلن في قلب العالم الافتراضي، معرض مجاني لحياته وبالتفصيل الممل، ماذا يأكل وماذا يشرب، متى يمرض ومتى يسافر، وماذا يتابع وماذا يشترى، تحركاته، سكناته، آماله أهدافه، أفكاره، أحلامه، تجاوزاته! إن لم تكن المعلومة على موقعه أو حسابه فستجدها عند أولاده وبناته، عند زوجته أو إخوته أو أخواته، بل حتى عند والده أو والدته! فالحياة لم تعد خاصة بل مسرحا مفتوحا لمن يشاهد ومن يقرأ، وبالطبع من يتابع ويربط!. كنا نقرأ كتابا فنحلق مع الكاتب إلى أزمان مختلفة، إلى أفكار عميقة حديثة وقديمة، ونطوف معه على شخصيات تعيش أحداثا تشدنا من أول كلمة إلى آخر سطر. كنا إن رأينا لوحة أو أصغينا إلى عمل فني، أو تأملنا في الطبيعة، تتحرك داخلنا ألف ريشة وريشة لترسم لنا انطباعات خاصة بنا. كلٌّ يرى ويسمع ويتذوق بطريقته، وكانت الذكريات تحفر في أرواحنا، أما اليوم كل شيء محفوظ في مكان ما، على جهاز، على سحابة افتراضية، أو على شريحة!. لا نعيش اللحظات، بل يشغلنا كيف نسجّلها حتى نثبت أو نتفاخر أو نشارك، فالأسباب كثر والمناسبات أكثر، والعقل الذي كان يوما يستوعب لم يعد يكفي بما أنه لا يرسل ولا يستقبل من وإلى كل قريب وبعيد!. لا يهم أن نعيش فعليا اللحظات وبكل جوارحنا، المهم أن يرى العالم كيف ومتى وأين نعيش!. المؤسف حقا، أن بعضنا لم يعد يفرق بين العالمين: الواقعي والافتراضي، منا من ضاع في هذا العالم ولم يعد يعرف أين هو! يتعامل معه على أنه الواقع لا يفرق بين المشاركة والخصوصية، لا يدرك إن هو تعدى أو تدخّل، عنده تشويش بين الذات والآخر، وكأن لسان حاله يقول: «طالما أن ما ظهر وما كُتب هو ظاهر لي، إذن أصبح ملكي ولي الحق في التصرف نحوه أو به كيفما أشاء»! فما يراه وما يسمعه، هو ما يفسره ويفهمه، وتكون ردة فعله على هذا الأساس فقط. لا يهم إن كان ما سمعه أو رآه مقتطعا أو غير كامل. لا يهمه إن كان من وضعه ومن أنتجه ومن كتبه ومن نشره عالما أم صعلوكا! إنه يعيش وَهْم المعرفة، ويتصدر ليناقشك بناء على معلومات «التيك أوي»، رافضا أي اعتراض أو تصحيح!، وإن طالبته أن يقرأ ويبحث في أماكن غير التي اعتاد عليها، أو وجهات نظر غير التي تبناها، يعاند ويكابر! نعم، لديه الوقت لقضاء ساعات في مشاهدة المسلسلات والأفلام، خاصة الخيال العلمي، كما أن لديه الوقت للإبحار عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، للبقاء على علم ومعرفة بآخر صيحات الثرثرة والفضائح والحروب والانتصارات، بين المدارس الفكرية أو المذهبية أو الشخصيات المعروفة، أما أن يكون لديه الوقت ليقرأ دراسات أو كتبا أو تقارير مختلفة التوجه والمرجعية، فهذا أمر لا يعبر حتى خياله. فكلما كانت المعلومة قصيرة ومقتضبة، كلما أُعجب بها وزاد تمسكه بها، وحبذا لو كان هنالك تلخيص أو حتى فيلم وثائقي مبني على هذا الحدث التاريخي أو ذاك العمل الأدبي، لأن أي شرح أو مُوجب للتركيز ومحاولة الفهم قد يرهقه وينفرّه، خاصة من يعتقد أنه يمتلك ما يحتاجه من العلم والمعلومات، فيظل بلا رأي مستقل غير قادر على التحليل النقدي البنّاء، تابع وإن قاد!. بالمناسبة، لا دخل هنا للمستوى الاجتماعي أو الدراسي أو عدد الشهادات!. لقد ركزتُ على سلبيات العالم الافتراضي، وأعلم جيدا أن له كثيرا من الإيجابيات، لكن رسالتي اليوم هي: أهمية أن يكون لدى المرء القدرة على بناء توازن بين العالمين، عندها سيتمكن من إثراء حياته، وعليه يجب أن يُستغل العالم الافتراضي في بناء وتطوير الواقع، فكما أنه مصدر معلومات قيمة عن العلم والاكتشافات، وهو مجال خصب لبناء مجموعات تطوعية أو اجتماعية أو ثقافية، تنتقل إلى العالم الحقيقي، وتثمر وتنمو وتفيد، إضافة إلى أنه منصة مفتوحة لحرية الرأي والفكر والحوار، هو أيضا منبع لمجموعات وأفراد ومشاهير الإنترنت، ممن لهم تأثير سلبي على جميع الشرائح المجتمعية، يظهرون فجأة ويزدهرون ثم ينتقلون إلى أرض الواقع لتكتمل عملية الاستغلال، وربما الدمار للقيم والأخلاقيات! وبما أن هنالك من يوازن، وهنالك من يغرق، وجب نقل مهارات التوازن إلى البقية، لنسهم في الارتقاء بالوعي، حتى لا نسمح لعالم أن يطغى على الآخر!.

مشاركة :