دأب الإعلام الغربي على تصوير حكام كوريا الشمالية وكأنهم مجانين، لكن التمعن في مسار البرنامج النووي والباليستي الذي اتبعوه يظهر أنهم يعرفون جيداً ماذا يريدون، واكتسبوا خلال سبعين سنة من المواجهة مع الولايات المتحدة خبرة في استخدام أسلوب التهديد وفرض الأمر الواقع لمقايضته نفوذاً ومساعدات خارجية. يعهد نص دستوري في كوريا الشمالية بالقيادة الى سلالة كيم المتحدرة من جبل بيكتو البركاني في مكان قريب من موقع التجارب النووية الحالية على الحدود مع الصين. وهو موقع يحمل رمزية روحية تاريخية للكوريين، جنوبيين وشماليين، على حد سواء. من هذا الموقع التاريخي، حيث تحولت فوهة البركان الى بحيرة تشكل مزاراً، استمد كيم ايل سونغ مرجعيته، لقيادة الكوريين في مسعى توحيد شبه الجزيرة بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. استنسخ كيم ايل سونغ نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي، حيث تلقى تدريباً ودعماً عسكريين، وطبقه في الشطر الشمالي الذي أحكم سيطرته عليه، وأقام فيه «جمهورية كوريا الديموقراطية الشعبية»، بصيغة حكم هجينة تخلط بين سلطة متوارثة ونظام ستاليني. في بلاد كهذه لم يستطع الخارج فهم أساطيرها ولا استيعاب دروسها السياسية، يتخبط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ممارسات يرى منتقدوه أنها هوجاء، بالمقدار ذاته الذي يراد به تصوير خطوات كيم الثالث، الحفيد الذي نجح في إحكام قبضته على السلطة منذ عام 2011 وتصفية منافسيه، ولم يرف له جفن إزاء الضغوط الخارجية حتى من الصين الحليف الأقرب لبلاده والتي تبدو أكثر ميلاً الى استيعابه من ميله هو لمسايرة تمنياتها في تفادي التصعيد. ثمة فارق بين قائد شاب يستمد نفوذه من شرعية ثورية- تاريخية وبين رئيس أميركي مستجد على السياسة، لا يجد خيارات للرد على اختبار بيونغيانغ قنبلتها النووية الأقوى، سوى تشديد العقوبات وتصعيد التهديد، وهي أساليب عقيمة جربها أسلافه، منذ عمد سلاح الجو الأميركي الى سياسة القصف بقنابل «نابالم» الحارقة والتي قضت على نحو 20 في المئة من سكان الشطر الشمالي خلال الحرب الكورية في أوائل الخمسينات من القرن الماضي. بسرعة كبيرة، تحولت أزمة كوريا الشمالية الى التحدي الأبرز لترامب، إذ بدا موضوع التوتر مع موسكو ثانوياً على رغم حدة اللهجة التي استخدمها الروس للتنديد بـ «اقتحام» قنصليتهم في سان فرانسيسكو وتفتيشها وإغلاقها. وطغت الأزمة الكورية أيضاً على ملفي محاربة «داعش» والتوتر مع إيران. بديهي أن محاولة بكين استيعاب اندفاعة القيادة الكورية الشابة، ترافقت أيضاً مع تشديد موسكو على ضرورة إيجاد حل ديبلوماسي للأزمة وتفادي ارتكاب «حماقات»، في إشارة الى تهديدات ترامب باستخدام السلاح النووي ضد بيونغيانغ. وبديهي أيضاً أن تصعيداً من هذا النوع لا يأتي إلا بمفاعيل عكسية، ذلك أن أي استخدام للقوة لا يؤذي سوى السكان ويؤلب الكوريين الجنوبيين والصينيين ضد واشنطن، في حين أن العقوبات التي تعتزم الأخيرة فرضها تطاولهم وحدهم كونها تستهدف «جهات ومصارف وشركات تتعامل مع بيونغيانغ». وبذلك يؤدي التصويب على كوريا الشمالية الى إصابة الدول التي يفترض بالولايات المتحدة السعي الى استدراجها لنيل تأييدها، لا معاقبتها وخسارة تعاونها. لا شك في أن دول «بريكس»، خصوصاً الصين وروسيا، أحست بالمهانة لتوقيت كوريا الشمالية اختبارها قنبلة هيدروجينية بالتزامن مع قمة المنظمة في بكين، لكن هذه الدول لن تقبل بتفوق أميركي وهي تفضل التهدئة واستيعاب بيونغيانغ، بدل خيار التصعيد الذي يحاول الأميركيون فرضه. وبذلك تبدو الغلبة للطرف الأكثر قدرة على رباطة الجأش ... ولو كان يسير على حافة بركان.
مشاركة :