الفساد في تونس مقاربة نظرية أم حرب مستمرة لا تستثني أحدا بقلم: الحبيب مباركي

  • 9/5/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

الفساد في تونس مقاربة نظرية أم حرب مستمرة لا تستثني أحداالحرب على الفساد في تونس قائمة وتعتمد مقاربة شمولية تستمد قوتها من الأولوية التي توليها الحكومة الحالية بقيادة يوسف الشاهد للقضاء على هذه الظاهرة ومحاولة تحجيمها في المنبت. ورغم الخطى الثابتة التي تسير فيها الحكومة فإن مراقبين يرون أن المسألة تتطلب وقتا طويلا وتكاتفا من كل التونسيين، فيما يشكك البعض في هذه الحرب ويعتبرها ستارا للتغطية على العديد من الملفات الأخرى العالقة، وبين جلّ هذه التصورات يظل السؤال معلقا، هل الحرب على الفساد في تونس مقاربة نظرية أم مسار جار لا يحتمل التأجيل؟ العرب الحبيب مباركي [نُشر في 2017/09/05، العدد: 10742، ص(13)]نظرة حادة تونس - عمليا الحكم على المعالجة والإصلاح لأي خلل أو ظاهرة متفشية يتطلب وقتا إضافيا وعزيمة كبيرة ومثابرة، تضاف إلى كل ذلك عملية إسناد هامة عبر التكاتف من جميع المكوّنات والفاعلين للخروج بنتائج إيجابية والوصول إلى الهدف، لينتهي الحُكم على هذا المسار بأنه جاد أو عديم الجدوى. في تونس، البلد الذي يتلّمس طريقه نحو الديمقراطية ودعم الحريات ومناهضة كل أشكال العنف في الوطن العربي بعد ثورة 14 يناير 2011، تركّز الاهتمام في البدء على طرح مسألة الفساد ضمن اهتمامات حكومية سابقة لكنّ أيا منها لم يتجرأ على فتح الملفات والبحث في السجّلات الخفية، وظل الكل ينتظر فرصة ثورية تقطع مع السائد والممل بخصوص هذا الملف الهام الذي شغل التونسيين بالتلميح دون التصريح. دأب الكل على ترديد مقولة إن “المسار الثوري يقطع مع كل ما هو سائد وممل نحو التجديد والبناء والتطلع نحو الأفضل”، لكن في تونس جاء المسار الثوري فغطى على الكثير من العيوب والهنات وازداد الفساد تغوّلا، خصوصا في الأعوام الأولى من الثورة وبالتحديد خلال فترة حكم “الترويكا” بقيادة حركة النهضة الإسلامية. جرأة ثورية التونسيون واعون بالإرث الكبير للفساد الذي تركه نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي والذي عمّ وسكن وعشّش بمختلف مؤسسات الدولة، لكنهم يؤكدون أن الهمّ زاد منسوبه والمرض استشرى بعد تولي الترويكا للحكم في 2011. مردّ هذا الحديث التقارير والوثائق التي تقطع الشك باليقين عن تغوّل صار يطبع تلك الفترة بدءا باستغلال المناصب والتعويضات التي نهبت الكثير من مال التونسيين، مرورا بتحويل الأموال وصولا إلى التشغيل المكثف والوهمي للإطارات “النهضوية” في كافة المؤسسات الإدارية وغيرها من أنواع الفساد الذي استشرى بصفة خيالية. سامية عبو: نشد على يدي يوسف الشاهد وسنواصل دعمه في خطوته للقضاء على الفاسدين يجد الكلام صداه إذا وضعنا في الاعتبار التقلبات السياسية (اغتيالات سياسية ومظاهرات واحتجاجات اجتماعية تطالب بالتنمية وغيرها)، التي طبعت تلك الفترة ومهّدت الطريق للنهضة وأتباعها في الحكم لاستغلال تلك الظرفية على أكمل وجه للتغلغل في المؤسسات المرهقة أصلا منذ زمن بن علي. في المقابل سعى العديد من الضالعين في الفساد ومن تحوم حولهم شبهات التكسّب والثراء إلى استغلال المنابر الإعلامية لبث سمومهم في القيادة “الرشيدة” حينها، وكان شغلهم الشاغل التغطية على عوراتهم وعدم السماح بكشف سترها. لكن المسار الثوري في تونس قاد إلى بروز حكومة تحمل الكثير من الجرأة يقودها يوسف الشاهد الذي اختار نهجا ثوريا يقوم على الذهاب في هذه الحرب إلى آخر الطريق، مثلما يقرّ شخصيا بأن “الحرب على الفساد متواصلة ولن نخشى أحدا”. حرب متواصلة فيما يعتبر البعض أن الحرب التي تقودها الحكومة على الفساد هي حرب شاملة تتطلب المزيد من التكاتف والتعاون للقضاء على دابر هذه الآفة التي عطّلت الإنتاج وأنهكت الدورة الاقتصادية وكرّست ظاهرة اللوبيات المتنفذة، يشكك آخرون في المسعى الحكومي ويعتبرونه ضالا ويقوم على سياسة الكيل بمكيالين. وشملت الحرب على الفساد توقيف العديد من الشخصيات من رؤوس الأموال على غرار رجل الأعمال شفيق الجراية والإعلامي سمير الوافي ليعلن في وقت لاحق عن توقيف مجموعة من رجال الأعمال الآخرين الذين تحوم حولهم شبهات الفساد، إضافة إلى كوادر بجهاز الجمارك. وفي هذا الإطار طالب فيصل الجدلاوي محامي رجل الأعمال شفيق الجراية بضرورة محاسبة جميع الفاسدين دون تمييز. وأضاف أن “من يريد محاربة الفساد عليه أن يتبع القانون وألا يقوم بالمحاصصة ويتخذ استراتيجيات واضحة”. في المقابل دعت النائبة عن التيار الديمقراطي سامية عبو رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى مواصلة عمليات القبض على المتورطين في الفساد. وأضافت “على الشاهد أن يلقي القبض على مجموعة رجال الأعمال من أمثال كمال اللطيف حتى تكتمل الصورة ويتم القضاء على الفساد بأكمله وحتى لا تتهم الحكومة بالتصدي لفئة دون أخرى”. وتابعت “نشدّ على يدي يوسف الشاهد وسنواصل دعمه في خطوته للقضاء على الفاسدين لأن هذه الخطوة في النهاية تصبّ في مصلحة جل التونسيين”. ومن جانبها نشرت صحيفة “الصريح” المحلية في عددها الصادر الخميس 29 يونيو 2017 اعترافات للإعلامي الموقوف سمير الوافي أثناء مثوله أمام قاضي التحقيق جاء فيها أنه تسلّم مبلغ 802 ألف دينار على ثلاثة أقساط، مضيفا أنه تعهّد بإعادة المبلغ المذكور بعد أن عجز عن التوسط لتأمين ”رخصة تجارية” للسيدة وابنها. ومن بين اعترافات الوافي أيضا تفاوضه مع السيدة لإعادة المبلغ على دفعات منذ أشهر وحتى قبل إعلان الحرب على الفساد، لكنها أبدت رفضها التام. يشار إلى أن الفساد مسّ قطاعات كبرى منها الإعلام والرياضة والصفقات العمومية وكل ما هو مرتبط بقطاعات حيوية في الدولة أيضا مثل الصحة والنقل والتعليم والجمارك التي يفترض أن تكون بعيدة ومحصّنة بشتى الوسائل الممكنة. الحرب على الفساد متواصلة في تونس وتسير بنسق تصاعدي، ومؤخرا أكدت اللجنة التونسية للتحاليل المالية أنها أحالت مجموعة من التصاريح بالشبهة في البورصة صدرت عن مؤسسات بنكية إلى القضاء، وتتعلق هذه التصاريح خاصة باستغلال البورصة في دمج محصلات فساد تتمثل في قبول رشاوى ناهزت قيمتها في بعض الملفات 300 ألف دينار. ورغم محدودية هذه التصاريح في هذا المجال، فإن ذلك يدل على تهديد مرتفع نسبيا باستغلال البورصة لغايات إجرامية. وبحثت اللجنة في تقرير يحمل عنوان “التقييم الوطني لمخاطر غسيل الأموال وتمويل الإرهاب” صدر في أبريل 2017 المخاطر المحتملة لدور البورصة في غسيل الأموال في ظل وجود 23 شركة وساطة في البورصة تمتلك 31 فرعا يتراوح رأس مالها بين مليون و10 ملايين دينار وهي تعمل في سوق بلغت رسملته 21.1 بالمئة من الناتج الداخلي الخام سنة 2015 وقدّر حجم اقتناءات الأجانب فيه سنة 2016 زهاء 142.8 مليون دينار. وورد على اللجنة 12 تصريحا بشبهات فقط من لجنة الوسطاء بالبورصة ما بين 2005 و2017، أي ما يمثّل 0.58 بالمئة فقط من التصاريح الواردة على اللجنة وارتبط أغلبها بعمليات ذات صلة بالنظام السابق وردت خاصة سنة 2011، لكن نسقها تراجع خلال السنوات الأخيرة. وخلصت اللجنة إلى أن أهم نقاط ضعف منظومة البورصة يكمن في وجود مشكلات متعلقة بالممارسات الخاصة بالرقابة وتدني مستوى معرفة العاملين في القطاع بمكافحة الفساد، إلى جانب غياب أساسيات لتحديد أنظمة الامتثال لدى وسطاء البورصة، مما يتطلب تركيز نظام معلوماتي متطوّر لدى المؤسسات المالية لرصد العمليات المشبوهة قبل موفّى 2017. ومن شأن هذه الإجراءات، لو تم تعميمها، أن تحدّ من منسوب ظاهرة الفساد في بعض الدوائر الحساسة كجهاز المالية والجمارك وبعض القطاعات الأخرى التي تتسنى مراقبتها بنظام مراقبة متطور. لوبيات متنفذة اعتراف المدان في قضايا فساد لا يلغي الأحكام التي ستصدر ضده أو يخففها، وهذا ما يتطلع الكثير من التونسيين إلى تطبيقه ويناشدون العدالة ونزاهة القضاء للعب دور أكثر إيجابية في هذا الاتجاه. لكن المحامي حاتم الزواري الذي ينوب سمير الوافي أفاد في تصريح لحقائق “أونلاين” في معرض رده على الاتهامات المنسوبة لموكله بأن الإعلامي الوافي تقدّم بمقترحات تسوية للمرأة الشاكية به بتهمة ابتزازها في مبلغ يقدر بـ800 ألف دينار عن طريق هيئة الدفاع، مشيرا إلى أن هذه المقترحات تتمثل في منحها نصف المبلغ وتقسيط النصف الآخر لاحقا.جذور راسخة وأكد الزواري أن المرأة الشاكية رفضت مقترح التسوية مقابل إسقاط الشكوى وعدم التمسك بتتبع سمير الوافي قضائيا. كما أبرز أن المرأة الشاكية تمتلك صكا ماليا ممضى من طرف الوافي بقيمة 240 ألف دينار، ستستشهد به كدليل على تسلّم الوافي لمبلغ 800 ألف دينار مقابل توسطه للحصول على رخصة محل تجاري. الفساد في تونس شمل كل القطاعات تقريبا وكيفية معالجته تفترض الإحاطة بجميع الطرق الممكنة التي يكفلها القانون لمعاقبة الجاني على فعلته دون تدخل ووساطات. ما يفسّر التدخل المتزايد والحملات المشبوهة والمظاهرات التي تدعو إليها وتقودها مجموعات بعينها، سواء من المنتسبين للنظام السابق أو المحسوبين على حركة النهضة على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي والتي تحمل شعارات التقليل من الحرب القائمة على الفساد ومحاولة طمسها. وفي هذا الإطار أكد محامي الوافي أن قضية موكله هي قضية حق عام، مشددا على أن الدفاع سيتمسك أمام قاضي التحقيق بمطلب محاسبة جميع الضالعين في الجريمة. إذن كشفُ القناع عن الفساد واللوبيات المتنفذة في الدولة التي ازدادت شوكتها حدة بعد الثورة، يبيّن أن تونس واقعة تحت إرث كبير لهذه المنظومة متكاملة الأركان التي نخرت جهاز الدولة وتغلغلت في كل دواليبه إلى أن باتت متحكّمة في كل مسارات الإنتاج والترويج لما يمكن أن يصلح بالدولة وما يمكن أن يكون غير آهل بها. نصطلح في النهاية على مسمى واحد وهو أن الفساد ظاهرة استشرت مثل داء السرطان الذي يدب في الجسم ويبدأ بإنهاك عضو فاعل فيه، لكن في تونس الداء مس جميع الأعضاء تقريبا بمنسوب أقل ضررا. وأمام هذه الفرصة التاريخية من الحرب على هذه الظاهرة المقيتة مطلوب من الحكومة التونسية الإقرار بالجرعة اللازمة للعلاج، ليستعيد جهاز الدولة عافيته تدريجيا وتندمل جروحه العميقة قبل تلك الظاهرة للعيان. في الثقافة العملية للقضاء على الظاهرة واجتثاث جذورها حريّ بالتونسيين أن يكونوا صفا واحدا لا مجال فيه للانشطار والتشظي. عمق الأزمة بعيد ويمسّ أجيال المستقبل إن لم يقع العمل على الغوص في الأغوار البعيدة للظاهرة. تونس عبث بها الفاسدون كما العراق ومصر والجزائر والعديد من الدول العربية التي اكتوت بنار اللوبيات وجمهرة من المتنطعين وراء أحلامهم الزائفة والصاغرين المستصغرين في دروب الدولة وأجهزتها النافذة التي يستلزم أن تكون بلا محاصصة ولا دعوات إلى تبرئة هذا وتصديق ذاك بحجة الولاء. «ما خلق الداء إلا ومعه دواء».. مقولة نسترجعها ونعيد تكرارها لكن ما أشد حاجتنا إليها في هكذا موقف مربك ومتقلب يتطاحن لأجله التونسيون وينقسمون بين مؤيد ومبارك وآخر ضال مستنكر للفعل وساع لتحجيم دوره وباعث على التندر والسخرية منه. الفساد في كهنوته وديمومته وتصوراته البعيدة قبل القريبة عملية بشرية بامتياز. يعني في النهاية أنه من صنع البشر. من صنع تونسيين أهلكهم الجشع وحب المال الفاسد قبل مصلحة الدولة ومصلحة الأشخاص. هؤلاء التونسيون فرص التوبة مفتوحة أمامهم، خاصة بعد سن قانون المصالحة الذي أقره الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، شرط أن يعودوا إلى رشدهم ويتقدموا للدولة للتصريح بممتلكاتهم وإعادة الأموال المنهوبة إلى خزينتها. في الجانب الآخر مطلوب من الدولة أن تطور أجهزتها الرقابية في كل القطاعات والمراكز والإدارات بما يضمن سن سلوك وضبط منهجيات قوامها العمل على القطع مع هذه الظاهرة في التسيير والإدارة وطرق التشغيل وغيرها من الأساليب التي يتغذى منها الفساد واشتد عوده. كاتب تونسي

مشاركة :